الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1113 189 - حدثنا قتيبة، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني. قال: ويسمي حاجته.

                                                                                                                                                                                  [ ص: 222 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 222 ] مطابقته للترجمة في قوله: " فليركع ركعتين من غير الفريضة " وقد أمره صلى الله عليه وسلم بركعتين، وهو بإطلاقه يتناول كونهما بالليل أو بالنهار.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم أربعة:

                                                                                                                                                                                  الأول: قتيبة بن سعيد .

                                                                                                                                                                                  الثاني: عبد الرحمن بن أبي الموالي بفتح الميم، أبو محمد مولى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وفي تهذيب الكمال: أن أبا الموالي اسمه زيد .

                                                                                                                                                                                  الثالث: محمد بن المنكدر بلفظ اسم الفاعل من الانكدار، ابن عبد الله أبو بكر ، مات سنة ثلاثين ومائة.

                                                                                                                                                                                  الرابع: جابر بن عبد الله رضي الله عنهم.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده): فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه العنعنة في موضعين، وفيه القول في موضعين، وفيه أن عبد الرحمن بن أبي الموالي مما تفرد بحديث الاستخارة، وأن البخاري تفرد به، وفيه أن شيخه بلخي وعبد الرحمن ومحمد مدنيان.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره): أخرجه البخاري أيضا في "الدعوات" عن أبي مصعب مطرف بن عبد الله ، وفي التوحيد عن إبراهيم بن المنذر ، وأخرجه أبو داود في "الصلاة"، عن القعنبي وعبد الرحمن ابن مقاتل خال القعنبي ، ومحمد بن عيسى بن الطباع ، وأخرجه الترمذي فيه والنسائي في "النكاح" وفي "النعوت"، وفي "اليوم والليلة" جميعا عن قتيبة ، وأخرجه ابن ماجه في "الصلاة" عن أحمد بن يوسف السلمي .

                                                                                                                                                                                  وقال الترمذي : حديث جابر حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الموالي ، وهو شيخ مدني ثقة، روى عنه سفيان حديثا، وقد روى عن عبد الرحمن غير واحد من الأئمة انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): حكم الترمذي على حديث جابر بالصحة تبعا للبخاري في إخراجه في الصحيح، وصححه أيضا ابن حبان ، ومع ذلك فقد ضعفه أحمد بن حنبل فقال: إن حديث عبد الرحمن بن أبي الموالي في الاستخارة منكر، وقال ابن عدي في "الكامل" في ترجمته، والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد رواه غير واحد من الصحابة، وقال شيخنا زين الدين : كأن ابن عدي أراد بذلك أن لحديثه هذا شاهدا من حديث غير واحد من الصحابة، فخرج بذلك أن يكون فردا مطلقا، وقد وثقه جمهور أهل العلم، وقال الترمذي ويحيى بن معين وأبو داود والنسائي : ثقة. وقال أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم : لا بأس به، وزاد أبو زرعة : صدوق.

                                                                                                                                                                                  وقال الترمذي عقيب ذكره هذا الحديث، وفي الباب عن ابن مسعود وأبي أيوب وقال شيخنا: وفي الباب أيضا عن أبي بكر الصديق ، وأبي سعيد الخدري ، وسعيد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وأبي هريرة ، وأنس رضي الله تعالى عنهم.

                                                                                                                                                                                  أما حديث ابن مسعود فأخرجه الطبراني في "الكبير" من رواية صالح بن موسى الطلحي ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، " عن عبد الله قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخارة قال: إذا أراد أحدكم أمرا فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك. .. " فذكره، ولم يقل: العظيم، وقدم قوله: " وتعلم " على قوله: " وتقدر " وقال: " فإن كان هذا الذي أريد خيرا في ديني وعاقبة أمري فيسره لي، وإن كان غير ذلك خيرا لي فاقدر لي الخير حيث كان، يقول ثم يعزم " ورواه الطبراني أيضا من طريق أخرى.

                                                                                                                                                                                  وأما حديث أبي أيوب فأخرجه ابن حبان في "صحيحه" والطبراني في "الكبير" من رواية الوليد بن أبي الوليد : أن أيوب بن خالد بن أبي أيوب حدثه، عن أبيه، عن جده أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اكتم الخطبة، ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم صل ما كتب الله لك، ثم احمد ربك ومجده، ثم قل: اللهم إنك تقدر ولا أقدر " الحديث، إلى قوله: " الغيوب " وبعده: " فإن رأيت لي في فلانة تسميها باسمها خيرا في دنياي وآخرتي فاقض لي بها، أو قال: فاقدرها لي " لفظ رواية الطبراني ، وقال ابن حبان : " خيرا لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقدرها لي، وإن كان غيرها خيرا لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقض لي ذلك "، وأيوب وخالد ذكرهما ابن حبان في "الثقات".

                                                                                                                                                                                  وأما حديث أبي بكر فأخرجه الترمذي في "الدعوات" من رواية زنفل بن عبد الله ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال: اللهم خر لي واختر لي " وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث زنفل ، وهو ضعيف عند أهل الحديث.

                                                                                                                                                                                  وأما حديث أبي سعيد فأخرجه أبو يعلى الموصلي من طريق ابن إسحاق ، حدثني عيسى بن عبد الله بن مالك ، عن محمد بن عمرو بن عطاء بن يسار " عن أبي سعيد الخدري ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أراد أحدهم أمرا فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك " الحديث على نحو حديث جابر ، وقال في آخره: " ثم قدر لي الخير أينما كان، لا حول ولا قوة إلا بالله " إسناده صحيح، ورواه ابن حبان أيضا في صحيحه من هذا الوجه.

                                                                                                                                                                                  وأما حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه فرواه أحمد والبزار وأبو يعلى في مسانيدهم من رواية إسماعيل بن محمد [ ص: 223 ] ابن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه، عن جده سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سعادة ابن آدم استخارته الله تعالى " الحديث. ولا يصح إسناده.

                                                                                                                                                                                  وأما حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم فأخرجهما الطبراني في "الكبير" بإسناده عنهما قالا: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، اللهم إني أستخيرك " الحديث إلى آخر قوله: " علام الغيوب "، وزاد بعده: " اللهم ما قضيت علي من قضاء فاجعل عاقبته إلى خير " وإسناده ضعيف، وفيه عبد الله بن هانئ ، متهم بالكذب.

                                                                                                                                                                                  وأما حديث أبي هريرة فرواه ابن حبان في صحيحه من رواية أبي المفضل بن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد أحدكم أمرا فليقل: اللهم إني أستخيرك " فذكره ولم يقل: العظيم، وفي آخره: " ورضني بقدرك " قال ابن حبان : أبو المفضل اسمه شبل بن العلاء بن عبد الرحمن مستقيم الأمر في الحديث، وقد ضعفه ابن عدي فقال: حدث بأحاديث له غير محفوظة مناكير، وأورد له هذا الحديث وقال: إنه منكر لا يحدث به غير شبل.

                                                                                                                                                                                  وأما حديث أنس فرواه الطبراني في "معجمه الصغير والأوسط" من رواية عبد القدوس بن حبيب ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد " وقال: لم يروه عن الحسن إلا عبد القدوس ، تفرد به ولده عبد السلام انتهى. وعبد القدوس أجمعوا على تركه وكذبه الفلاس ، وقال أبو حاتم : عبد السلام وأبوه ضعيفان.

                                                                                                                                                                                  (ذكر اختلاف ألفاظ حديث جابر وغيره إسنادا ومتنا):

                                                                                                                                                                                  ففي رواية للبخاري في التوحيد، ورواية لأبي داود أيضا التصريح بسماع عبد الرحمن بن أبي الموالي ، عن ابن المنكدر ، وبسماع ابن المنكدر له عن جابر ، وقال البخاري في الدعوات: " في الأمور كلها كالسورة من القرآن "، ولم يقل فيه: " من غير الفريضة " وقال فيه: " ثم رضني به " وقال في "كتاب التوحيد": " كان يعلم أصحابه الاستخارة " أي صلاة الاستخارة " في الأمور كلها "، وفي رواية النسائي في النكاح: " وأستعينك بقدرتك "، ولم يقل أبو داود ابن ماجه : " في الأمور كلها " وزاد أبو داود بعد قوله: " ومعاشي ومعادي " وللطبراني في الأوسط في حديث ابن مسعود : " وأسألك من فضلك الواسع ".

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: " يعلمنا الاستخارة " أي صلاة الاستخارة ودعاءها، وهي طلب الخيرة على وزن العنبة، اسم من قولك: اختاره الله. وفي النهاية: خار الله لك أي أعطاك ما هو خير لك، قال: والخيرة بكون الياء الاسم منه، وأما بالفتح فهو الاسم من قولك: اختاره الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم خيرة الله من خلقه، يقال بالفتح والسكون، وهو من باب الاستفعال، وهو في لسان العرب على معان، منها سؤال الفعل، والتقدير أطلب منك الخير فيما هممت به، والخير هو كل معنى زاد نفعه على ضره.

                                                                                                                                                                                  قوله: " في الأمور كلها " دليل على العموم، وأن المرء لا يحتقر أمرا لصغره وعدم الاهتمام به، فيترك الاستخارة فيه، فرب أمر يستخف بأمره فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " ليسأل أحدكم ربه حتى في شسع نعله " .

                                                                                                                                                                                  قوله: " كما يعلمنا السورة من القرآن " دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنه متأكد مرغب فيه، (فإن قلت): كان ينبغي أن تجب الاستخارة استدلالا بتشبيه ذلك، بتعليم السورة من القرآن، كما استدل بعضهم على وجوب التشهد في الصلاة بقول ابن مسعود : كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن. (قلت): الذي دل على وجوب التشهد الأمر في قوله: " فليقل التحيات لله " الحديث.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): هذا أيضا فيه أمر، وهو قوله: " فليركع ركعتين ثم ليقل ". (قلت): الأمر في هذا معلق بالشرط، وهو قوله: " إذا هم أحدكم بالأمر ". (فإن قلت): إنما يؤمر به عند إرادة ذلك لا مطلقا كما قال في التشهد، " وإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله ". (قلت): التشهد جزء من الصلاة المفروضة فيؤخذ الوجوب من قوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، فأما الاستخارة فتدل على عدم وجوبها الأحاديث الصحيحة الدالة على انحصار فرض الصلاة في الخمس.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): فعلى هذا ينبغي أن لا يكون الوتر واجبا، ومع هذا هو واجب، بل المنقول عن أبي حنيفة أنه فرض. (قلت): قد قامت الأدلة من الخارج على وجوب الوتر كما عرف في موضعه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إذا هم " أي إذا قصد.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فليركع ركعتين " أي فليصل ركعتين، وهو ذكر الجزء وإرادة الكل ; لأن الركوع جزء من أجزاء الصلاة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " في غير الفريضة " دليل على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة، لتقييد ذلك في النص بغير الفريضة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ثم ليقل اللهم " إلى آخره دليل [ ص: 224 ] على أنه لا يضر تأخير دعاء الاستخارة عن الصلاة ما لم يطل الفصل.

                                                                                                                                                                                  قوله: " بعلمك " الباء فيه وفي قوله: " بقدرتك " للتعليل أي بأنك أعلم وأقدر، قاله شيخنا زين الدين . وقال الكرماني : يحتمل أن تكون للاستعانة، وأن تكون للاستعطاف كما في قوله: رب بما أنعمت علي أي بحق علمك وقدرتك الشاملين.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأستقدرك " أي أطلب منك أن تجعل لي قدرة عليه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأسألك من فضلك العظيم " كل عطاء الرب جل جلاله فضل، فإنه ليس لأحد عليه حق في نعمة ولا في شيء، فكل ما يهب فهو زيادة مبتدأة من عنده لم يقابلها منا عوض فيما مضى، ولا يقابلها فيما يستقبل، فإن وفق للشكر والحمد فهو نعمة منه، وفضل يفتقر إلى حمد وشكر، وهكذا إلى غير نهاية خلاف ما تعتقده المبتدعة التي تقول: إنه واجب على الله تعالى أن يبتدئ العبد بالنعمة، وقد خلق له القدرة، وهي باقية فيه، دائمة له أبدا، يعصي ويطيع.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وأنت علام الغيوب " المعنى أنا أطلب مستأنفا لا يعلمه إلا أنت، فهب لي منه ما ترى أنه خير لي في ديني ومعيشتي وعاجل أمري وآجله، وهذه أربعة أقسام خير يكون له في دينه دون دنياه، وخير له في دنياه خاصة، ولا تعرض في دينه وخير في العاجل، وذلك يحصل في الدنيا، ولكن في الآخرة أولى وخير في الآجل، وهو أفضل، ولكن إذا اجتمعت الأربعة فذلك الذي ينبغي للعبد أن يسأل ربه، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم أصلح ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر إنك على كل شيء قدير " .

                                                                                                                                                                                  قوله: " ومعاشي " المعاش والمعيشة واحد يستعملان مصدرا واسما، وفي المحكم: العيش الحياة، عاش عيشا وعيشة ومعيشا ومعاشا وعيشوشة، ثم قال: المعيش والمعاش والمعيشة ما يعاش به.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أو قال " هو شك من بعض الرواة.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فاقدره لي " أي فقدره، يقال قدرت الشيء أقدره بالضم والكسر قدرا من التقدير.

                                                                                                                                                                                  قال شهاب الدين القرافي في "كتاب أنوار البروق": يتعين أن يراد بالتقدير هنا التيسير، فمعناه فيسره.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وبارك لي فيه " أي أدمه وضاعفه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " واصرفه عني واصرفني عنه " أي لا تعلق بالي به وتطلبه، ومن دعاء بعض أهل الطريق: اللهم لا تتعب بدني في طلب ما لم يقدر لي، ويقال معناه طلب الأكمل من وجوه انصراف ما ليس فيه خيرة عنه، ولم يكتف بسؤال صرف أحد الأمرين ; لأنه قد يصرف الله خيره عن المستخير عن ذلك الأمر بأن ينقطع طلبه له، وذلك الأمر الذي ليس فيه خيرة يطلبه، فربما أدركه، وقد يصرف الله عن المستخير ذلك الأمر ولا يصرف قلب العبد عنه، بل يبقى متطلبا متشوقا إلى حصوله، فلا يطيب له خاطره، فإذا صرف كل منهما عن الآخر كان ذلك أكمل، ولذلك قال في آخره: " فاقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به " لأنه إذا قدر له الخير ولم يرض به، كان منكدر العيش آثما بعدم رضاه بما قدره الله له مع كونه خيرا له، والرضى سكون النفس إلى القدر والقضاء.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ويسمي حاجته " أي في أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في قوله: " إن كان هذا الأمر ".

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): فيه استحباب صلاة الاستخارة والدعاء المأثور بعدها في الأمور التي لا يدري العبد وجه الصواب فيها، أما ما هو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف فلا حاجة للاستخارة فيها، نعم قد يستخار في الإتيان بالعبادة في وقت مخصوص كالحج مثلا في هذه السنة لاحتمال عدو أو فتنة أو حصر عن الحج، وكذلك يحسن أن يستخار في النهي عن المنكر كشخص متمرد عات يخشى بنهيه حصول ضرر عظيم عام أو خاص، وإن كان جاء في الحديث: " إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " لكن إن خشي ضررا عاما للمسلمين، فلا ينكر وإن خشي على نفسه فله الإنكار، ولكن يسقط الوجوب، وفيه في قوله: " فليركع ركعتين " دليل على أن السنة للاستخارة كونها ركعتين ، فإنه لا تجزئ الركعة الواحدة في الإتيان بسنة الاستخارة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلي أربعا أو أكثر بتسليمة يحتمل أن يقال: يجزئ، ذلك لقوله في حديث أبي أيوب : " ثم صل ما كتب الله لك " فهو دال على أن الزيادة على الركعتين لا تضر، وفيه ما كان من شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته وإرشادهم إلى مصالحهم دينا ودنيا ، وفيه في قوله: " فليركع ركعتين " استحباب ذلك في كل وقت إلا في وقت الكراهة، وكذلك عند الشافعية في الأصح، وفيه دلالة على أن العبد لا يكون قادرا إلا بالفعل لا قبله كما تقول القدرية ، وقال ابن بطال : القوة والقدرة من صفات الذات، والقدرة والقوة بمعنى واحد مترادفان، فالباري تعالى لم يزل قادرا قويا [ ص: 225 ] ذا قدرة وقوة، قال: وذكر الأشعري أن القدرة والقوة والاستطاعة اسم، ولا يجوز أن يوصف بأنه مستطيع لعدم التوقيف بذلك، وإن كان قد جاء القرآن بالاستطاعة فقال: هل يستطيع ربك وإنما هو خبر عنهم، ولا يقتضي إثبات صفة له، وفيه تصريح بعقيدة أهل السنة، فإنه نفى العلم عن العبد والقدرة وهما موجودان، وذلك تناقض في بادئ الرأي، والحق فيه الاعتراف بأن العلم لله تعالى والقدرة له ، وليس للعبد من ذلك شيء إلا ما خلق له، يقول: يا رب تقدر قبل أن تخلق في القدرة، وتقدر مع خلقها، وتقدر بعدها، وأنت على الحقيقة في الأمور كلها تصرف وتحل لمقدوراتك وكذلك في العلم، وفيه أنه يجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله تعالى ، وصرف أزمتها والتبرء من الحول والقوة إليه، وأن لا يروم شيئا من دقيق الأمور ولا جليلها حتى يسأل الله فيه، ويسأله أن يحمله فيه على الخير، ويصرف عنه الشر إذعانا بالافتقار إليه في كل أمره، والتزاما لذاته بالعبودية له، وتبركا لاتباع سنة سيد المرسلين في الاستخارة، وربما قدر ما هو خير ويراه شرا نحو قوله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وفيه في قوله: " وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي " حجة على القدرية الذين زعموا أن الله لا يخلق الشر، تعالى الله عما يفترون، فقد بان في هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشر والخالق له، وهو المدعو لصرفه عن العبد من نفسه، وما يقدر على اختراعه دون أن يقدر الله عليه.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): هل يستحب تكرار الاستخارة في الأمر الواحد إذا لم يظهر له وجه الصواب في الفعل أو الترك، ما لم ينشرح صدره لما يفعل. (قلت): بلى يستحب تكرار الصلاة والدعاء لذلك، وقد ورد في حديث تكرار الاستخارة سبعا في عمل اليوم والليلة لابن السني من رواية إبراهيم بن البراء ، قال: " حدثني أبي، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس ، إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك، فإن الخير فيه " قال النووي في الأذكار: إسناده غريب. وفيه من لا أعرفهم، قال شيخنا زين الدين : كلهم معروفون، ولكن بعضهم معروف بالضعف الشديد، وهو إبراهيم بن البراء ، والبراء هو ابن النضر بن أنس بن مالك ، وقد ذكره في الضعفاء العقيلي وابن حبان وابن عدي والأزدي قال العقيلي : يحدث عن الثقات بالبواطيل، وقال ابن حبان : شيخ كان يدور بالشام يحدث عن الثقات بالموضوعات، لا يجوز ذكره إلا على مثل القدح فيه. وقال ابن عدي : ضعيف جدا، حدث بالبواطيل. فعلى هذا فالحديث ساقط لا حجة فيه، نعم قد يستدل للتكرار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثا. وقال النووي : إنه يستحب أن يقرأ في ركعتي الاستخارة في الأولى بعد الفاتحة: قل يا أيها الكافرون وفي الثانية: قل هو الله أحد وقد سبقه إلى ذلك الغزالي ، فإنه ذكره في الإحياء كما ذكره النووي ، وقال شيخنا زين الدين رحمه الله: لم أجد في شيء من طرق أحاديث الاستخارة تعيين ما يقرأ فيهما .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية