الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل قال مالك من اغتسل يوم الجمعة أول نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة فإن ذلك الغسل لا يجزي عنه حتى يغتسل لرواحه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل قال مالك ومن اغتسل يوم الجمعة معجلا أو مؤخرا وهو ينوي بذلك غسل الجمعة فأصابه ما ينقض وضوءه فليس عليه إلا الوضوء وغسله ذلك مجزئ عنه

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          231 229 - ( مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا جاء أحدكم ) بإضافة أحد إلى ضمير الجمع وذلك يعم الرجال والنساء والصبيان والمشهور من مذهب مالك وهو رواية ابن القاسم عنه أن الغسل يسن لمن أتى الجمعة ممن تجب عليه أو لا من مسافر أو عبد أو امرأة أو صبي إذا أتوها ولمالك ( في المختصر ) أن من لا تلزمه إن حضرها لابتغاء الفضل شرع له الغسل وسائر آداب الجمعة ، وإن حضرها لأمر اتفاقي أو لمجرد الصلاة فلا .

                                                                                                          ( الجمعة ) أي الصلاة أو المكان الذي تقام فيه ، وذكر المجيء لكونه الغالب وإلا فالحكم شامل لمن كان مقيما بالجامع .

                                                                                                          ( فليغتسل ) الفاء للتعقيب فظاهره أن الغسل يعقب المجيء وليس بمراد وإنما المراد إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل ، رواه بهذا اللفظ الليث عن نافع ثم مسلم ونظيره قوله تعالى : إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ( سورة المجادلة : الآية 12 ) فإن معناه إذا أردتم المناجاة بلا خلاف ، ويقوي رواية الليث حديث أبي هريرة السابق : من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فهو صريح في تأخر الرواح عن الغسل ، وبهذا علم فساد قول من حمله على ظاهره وتمسك به على أن الغسل لليوم لا للصلاة لأن الحديث واحد ومخرجه واحد وقد بين الليث في روايته المراد وقواه حديث أبي هريرة ، واستدل بمفهوم قوله إذا جاء الجمهور على أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة خلافا لأكثر الحنفية ، وقد صرح بالمفهوم في رواية ابن واقد عن نافع بلفظ : ومن لم يأتها فليس عليه غسل ، كما يأتي .

                                                                                                          ورواية نافع لهذا الحديث مشهورة جدا وقد اعتنى بتخريج طرقه أبو عوانة في صحيحه فساقه من طريق سبعين نفسا رووه عن نافع وقد تتبعت ما فاته وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد لغرض اقتضى ذلك فبلغت أسماء من رواه عن نافع مائة وعشرين نفسا ، فما يستفاد هنا ذكر سبب الحديث ، ففي رواية إسماعيل بن أمية عن نافع عند أبي عوانة وقاسم بن أصبغ : كان الناس يغدون في أعمالهم فإذا كانت الجمعة جاءوا عليهم ثياب متغيرة فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " من جاء منكم الجمعة فليغتسل ، ومنها ذكر محل القول ، ففي رواية الحكم بن عيينة عن نافع عن ابن عمر : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أعواد هذا المنبر بالمدينة " أخرجه يعقوب الجصاص في فوائده من رواية اليسع بن قيس عن الحكم ، وطريق الحكم عند النسائي وغيره عن شعبة عنه بلفظ [ ص: 380 ] حديث الباب إلا قوله " جاء " فعنده " راح " ومنها ما يدل على تكرار ذلك ، ففي رواية صخر بن جويرية عن نافع عن أبي مسلم الكجي بلفظ : كان إذا خطب يوم الجمعة قال الحديث ومنها زيادة في المتن ، ففي رواية عثمان بن واقد عن نافع عن أبي عوانة وابن خزيمة وابن حبان في صحاحهم بلفظ : " من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل ومن لم يأتها فليس عليه غسل " ورجاله ثقات ، لكن قال البزار : أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه .

                                                                                                          ومنها زيادة في المتن والإسناد أيضا أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من طرق عن مفضل بن فضالة عن عياش بن عباس القتباني عن بكير بن عبد الله الأشج عن نافع عن ابن عمر عن حفصة قالت : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الجمعة واجبة على كل محتلم وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل " قال الطبراني في الأوسط : لم يروه عن نافع بزيادة حفصة إلا بكير ولا عنه إلا عياش تفرد به مفضل ، قلت : رواته ثقات فإن كان محفوظا فهو حديث آخر ولا مانع أن يسمعه ابن عمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن غيره من الصحابة ولا سيما مع اختلاف المتون .

                                                                                                          قال ابن دقيق العيد : في الحديث دليل على تعليق الغسل بالمجيء للجمعة ، ولقد أبعد الظاهري إبعادا يكاد أن يكون مجزوما ببطلانه حيث لم يشترط تقدم الغسل على صلاة الجمعة حتى لو اغتسل قبل الغروب كفى عنده تعلقا بإضافة الغسل إلى اليوم ، وقد تبين من بعض الروايات أن الغسل لإزالة الرائحة الكريهة ، وفهم منه أن المقصود عدم تأذي الحاضرين وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة اهـ .

                                                                                                          وقد حكى ابن عبد البر الإجماع ، على أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة ولا فعل ما أمر به ، وادعى ابن حزم أنه قول جماعة من الصحابة والتابعين وأطال في تقرير ذلك بما هو بصدد المنع والرد ، ويفضي إلى التطويل بما لا طائل تحته ، ولم يورد عن أحد ممن ذكر التصريح بإجزاء الغسل بعد الجمعة ، وإنما أورد عنهم ما يدل على أنه لا يشترط اتصاله بالذهاب فأخذه هو منه أنه لا فرق بين ما قبل الزوال وبعده والفرق بينهما ظاهر كالشمس اهـ . ملخصا من فتح الباري ، والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ، وتابعه الليث عن نافع بنحوه عند مسلم ( قال مالك : من اغتسل يوم الجمعة أول نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة فإن ذلك الغسل لا يجزي ) بفتح أوله لا يكفي ( عنه حتى يغتسل لرواحه و ) دليل ( ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ابن عمر الذي رويته عن نافع عنه إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل ) فعلق الغسل بالمجيء للجمعة ، فيفيد أن شرطه اتصاله بالذهاب إليها لأن المعلق على شيء إنما يوجد إذا وجد وهذا استدلال جلي ، [ ص: 381 ] وقد وافق مالكا على اشتراط ذلك الليث والأوزاعي وقال الجمهور : يجزي من بعد الفجر والأفضل تأخيره وغاية ما استدلوا به حديث : " اغتسلوا يوم الجمعة " وليس بقوي الدلالة لأنه مجمل فحمله على هذا المبين أولى وهو مقتضى النظر أيضا لأن حكمة الأمر به التنظيف لرعاية الحاضرين من التأذي بالروائح الكريهة ، فلحظ ذلك مالك ومن وافقه فشرط اتصال الغسل بالذهاب ليحصل الأمن مما يغاير التنظيف ، فدل المعنى على أنه لا يعتد به إذا لم يتصل بالذهاب .

                                                                                                          قال ابن دقيق العيد : والمعنى إذا كان معدوما كالنص قطعا أو ظنا متقاربا للقطع فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ اهـ .

                                                                                                          ويقوي ذلك حديث عائشة في الصحيحين قالت : " كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار فيخرج منهم الريح فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم وهو عندي فقال - صلى الله عليه وسلم - : لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا " ، وفي رواية فقيل لهم : " لو اغتسلتم يوم الجمعة " ( قال مالك ومن اغتسل يوم الجمعة ) سواء كان ( معجلا ) بكسر الجيم أي ذاهبا لها قبل الزوال ولو بكثير مرتكبا للمكره ( أو مؤخرا ) بكسر الخاء أي رائحا لها في الوقت المطلوب لأن المدار إنما هو على اتصاله بالرواح ويجوز فتح الجيم والخاء على أنه صفة مصدر أي غسلا معجلا لكن الأول أنسب بقوله : ( وهو ينوي بذلك غسل الجمعة ) جملة حالية لإفادة القيد ( فأصابه ما ينقض وضوءه ) من نواقض الوضوء ( فليس عليه إلا الوضوء وغسله ذلك يجزي عنه ) وقد كان عبد الرحمن بن أبزى الصحابي يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث ويتوضأ ولا يعيد الغسل رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح .




                                                                                                          الخدمات العلمية