الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قال رحمه الله ( وإن استغله تصدق بالغلة كما لو تصرف في المغصوب الوديعة وربح ) أي استغل المغصوب بأن كان عبدا مثلا فأجره فنقصه الاستعمال وضمن النقصان تصدق الغاصب بالغلة كما يتصدق بالربح فيما إذا تصرف في المغصوب أو الوديعة بأن باعه وربح فيه ; لأن المنافع لا تقوم إلا بالعقد والعاقد هو الغاصب فتكون الأجرة له بخلاف ما إذا غصب جارية وغصبها ووطئها الزوج فالعقر للمالك دون الغاصب ; لأن العقر يجب باستيفاء منفعة البضع عند قيام الشبهة لا بالعقد أما الأول وهو الاستعمال فالمذكور هنا قولهما وهو التصدق وعند أبي يوسف لا يتصدق به وقد ذكرنا الوجه في الجانبين في المسألة التي قبلها وكان ينبغي أن يتصدق بما زاد على ما ضمن عندهما لا بالغلة كلها كما في المسألة الأولى ثم إنما يضمن الغاصب النقصان إذا كان النقصان في العين وكان غير زيوف ; لأنه دخل جميع أجزائه في ضمانه فيجب عليه قيمة ما تعذر رده من أجزائه كلا أو بعضا بخلاف المبيع حيث لا يوجب النقصان الحادث فيه قبل القبض إلا بالخيار ولا يوجب حط شيء من الثمن ; لأن الأوصاف لا تضمن بالعقد وتضمن بالفعل ، وإن كان لتراجع السعر لا يضمن بعد أن رده في مكان الغصب ; لأن ذلك لقلة الرغبات فيه لا لنقصان في العين بفوات جزء .

                                                                                        وإن كان ربويا لا يمكنه أن يضمنه النقصان مع استرداد العين ; لأنه يؤدي إلى الربا إذ الجودة لا قيمة لها في الأموال الربوية ولكنه يخير بين أن يأخذه ولا شيء له وبين أن يتركه على الغاصب ويضمنه مثله من الربويات أو قيمته ولك أن تقول عدم إمكان ذلك مسلم فيما إذا كان نقصان الربويات في الأوصاف كما إذا غصب حنطة فعفنت في يده ; لأنه لا اعتبار للوصف عندنا ، وأما إذا كان نقصانها في الأجزاء كما إذا غصب كيليا أو وزنيا فتلف بعض أجزائه فنقص فرده كيلا أو وزنا فيكون لصاحب المال تضمين النقصان مع استرداد الباقي ولا يؤدي إلى الربا كما لا يخفى وفي العناية فسر الربويات بما إذا غصب حنطة فعفنت عنده أو إناء فضة فانهشم في يده أقول : في كون إناء الفضة من الربويات عندنا فيه نظر ظاهر ، فإنهم صرحوا في شرح الهداية ومنهم صاحب العناية بأن الوزني الذي في تبعيضه ضرر كالمصوغ من القمقم والعلث ليس هو بمثلي بل هو من ذوات القيم ولا شك أن إناء الفضة منه فكيف مثل به ولاستغلال العبد المستعار بالإيجار كاستغلال المغصوب حتى يجب عليه ضمان النقصان ويتصدق بالغلة عندهما خلافا لأبي يوسف والوجه قد بيناه ولو هلك في يده بعدما استعمله فضمنه المالك كان له أن يستعين بالغلة في أداء الضمان ; لأن الخبث لأجل المالك .

                                                                                        فإذا أخذه المالك لا يظهر الخبث في حقه ولهذا لو أسلم الغلة إليه مع العبد يباح له التناول فيزول الخبث بالتسليم وتبرأ ذمته عن القيمة بقدره بخلاف ما إذا باعه الغاصب بعدما استغله وهلك في يد المشتري وضمنه المالك قيمته ثم رجع المشتري على الغاصب بالثمن حيث لا يكون للغاصب أن يستعين بالغلة في أداء الثمن إلى المشتري ; لأن الخبث كان لحق المالك والمشتري ليس بمالك فلا يزول الخبث بالأداء إليه فلا يؤديه إليه إلا إذا كان لا يجد غيره فيرجح هو على غيره من الفقراء باعتبار أنه ملكه وهو محتاج إليه كما أن للملتقط أن يصرف الغلة على نفسه إذا كان محتاجا ثم إذا أصاب ما لا يتصدق بمثله إن كان غنيا وتعذر الاستغلال ، وإن كان فقيرا فلا شيء لما ذكرنا من ترجيحه على غيره من الفقراء وأما الثاني وهو ما إذا تصرف في المغصوب أو الوديعة وربح فهو على وجوه إما أن يكون مما يتعين بالتعين كالعرض أو لا يتعين كالنقدين ، فإن كان مما يتعين لا يحل له التناول منه قبل ضمان القيمة وبعده يحل إلا فيما زاد على قدر القيمة وهو الربح المذكور هنا ، فإنه لا يطيب له ويتصدق به ; لأن العقد يتعلق فيما لا يتعين بالتعيين حتى تنفسخ بالهلاك قبل القبض فتمكن الخبث فيه .

                                                                                        وإن كان مما لا يتعين فقد قال الكرخي إنه على أربعة أوجه أما إن أشار ونقد منه أو أشار إليه ونقد من غيره أو أشار إلى غيره ونقد منه أو أطلق إطلاقا ونقد منه وفي كل ذلك يطيب له إلا في الوجه الأول وهو ما إذا أشار إليه ونقد منه [ ص: 130 ] لأن الإشارة إليه لا تفيد التعيين فيستوي وجودها وعدمها إلا إذا تأكدت بالنقد منهما وقال مشايخنا رحمهم الله تعالى لا يطيب له بكل حال وهو المختار وإطلاق الجواب في الجامعين يدل على ذلك ووجهه أنه بالنقد منه استفاد سلامة المشتري وبالإشارة استفاد جواز العقد لتعلق العقد في حق الوصف والقدر فيثبت فيه شبهة الحرمة لمالكه بسبب خبيث واختار بعضهم الفتوى على قول الكرخي في زماننا لكثرة الحرام وهذا كله على قولهما وعند أبي يوسف لا يتصدق بشيء منه والوجه ما بينا وهذا الاختلاف منهم فيما إذا صار بالتقلب من جنس ما ضمن بأن غصب دراهم مثلا وصار في يده من ثمن المغصوب دراهم كان في يده من بدله بخلاف جنس ما ضمن بأن غصب دراهم وفي يده من بدله طعام أو عروض لا يجب عليه التصدق بالإجماع ; لأن الربح إنما يتعين عند اتحاد الجنس وما لم يصر بالتقلب من جنس ما ضمن لا يظهر الربح ولو اشترى بثمن المبيع بيعا فاسدا شيئا وأشار إليه ونقد منه يطيب الربح ; لأن الثمن صار ملكا بالقبض بتراضيهما ولأنه متى نقض البيع واسترد الثمن يرد مثل الثمن لا عينه ولكن هذا لا يوجب بينهم الخبث في التصرف للحال .

                                                                                        ولو اشترى بالدراهم المغصوبة طعاما حل التناول ولو اشترى بالدراهم المغصوبة دنانير لم يجز له أن يتصرف في الدنانير ; لأن الدراهم لو استحقت بعدما افترقا انتقض البيع في الدنانير فوجب عليها ردها فأما البيع في الطعام لا ينقض باستحقاق الدراهم ; لأنه يجب عليه رد مثلها لا عينها ولو اشترى بالثوب المغصوب جارية يحرم عليه أن يطأها حتى يدفع قيمة الثوب إلى صاحبه ; لأن بالاستحقاق تبين أن البيع فاسد ; لأن البيع يتعلق بعين الثوب ولو اشترى بالدراهم المغصوبة جارية حل له وطؤها إلا البيع لا يتعين بتلك الدراهم ولو تزوج بالثوب المغصوب جارية امرأة حل له وطؤها ; لأن النكاح لا ينتقض باستحقاق المهر ولو أخذ المالك القيمة بقول الغاصب في الجارية المغصوبة لم يحل له وطؤها واستخدامها ولا بيعها إلا إذا أعطاه قيمتها بتمامها ; لأنها من غير رضا المالك ولهذا لا يملك الفسخ إن ظهرت مستحقة ولو أعتق الغاصب العبد بعد القضاء عليه بالقيمة الناقصة جاز عنده وعليه تمام القيمة كذا في المحيط مختصرا

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية