الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أو كصيب من السماء

                                                                                                                                                                                                                                      "أو" حرف مردود على قوله: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا [ البقرة: 17 ] واختلف العلماء فيه على ستة أقوال . [ ص: 42 ] أحدها: أنه داخل هاهنا للتخيير ، تقول العرب جالس الفقهاء أو النحويين ، ومعناه: أنت مخير في مجالسة أي: الفريقين شئت ، فكأنه خيرنا بين أن نضرب لهم المثل الأول أو الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه داخل للإبهام فيما قد علم الله تحصيله ، فأبهم عليهم ما لا يطلبون تفصيله ، فكأنه قال: مثلهم كأحد هذين . ومثله قوله تعالى: فهي كالحجارة أو أشد قسوة [ البقرة: 74 ] والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله . قال لبيد:


                                                                                                                                                                                                                                      تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر



                                                                                                                                                                                                                                      أي: هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين ، وقد فنيا فسبيلي أن أفنى كما فنيا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه بمعنى بل . وأنشد الفراء


                                                                                                                                                                                                                                      بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى     وصورتها أو أنت في العين أملح



                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه للتفصيل ، ومعناه: بعضهم يشبه بالذي استوقد نارا ، وبعضهم بأصحاب الصيب . ومثله قوله تعالى: كونوا هودا أو نصارى [ البقرة: 135 ] معناه: قال بعضهم ، وهم اليهود: كونوا هودا ، وقال النصارى: كونوا نصارى . وكذا قوله: فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون [ الأعراف: 4 ] معناه: جاء بعضهم بأسنا بياتا وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: أنه بمعنى الواو . ومثله قوله تعالى: أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم [ النور: 61 ] قال جرير:


                                                                                                                                                                                                                                      نال الخلافة أو كانت له قدرا     كما أتى ربه موسى على قدر



                                                                                                                                                                                                                                      السادس أنه للشك في حق المخاطبين ، إذ الشك مرتفع عن الحق عز وجل ، ومثله قوله تعالى: وهو أهون عليه [ الروم: 37 ] يريد: فالإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون . [ ص: 43 ] فأما التفسير لمعنى الكلام: أو كأصحاب صيب ، فأضمر الأصحاب; لأن في قوله: يجعلون أصابعهم في آذانهم دليلا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      والصيب: المطر . قال ابن قتيبة: هو فيعل من صاب يصوب: إذا نزل من السماء ، وقال الزجاج: كل نازل من علو إلى استفال ، فقد صاب يصوب ، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      كأنهم صابت عليهم سحابة     صواعقها لطيرهن دبيب



                                                                                                                                                                                                                                      وفي الرعد ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه صوت ملك يزجر السحاب ، وقد روي هذا المعنى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه قال ابن عباس ، ومجاهد . وفي رواية عن مجاهد أنه صوت ملك يسبح . وقال عكرمة: هو ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الإبل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه ريح تختنق بين السماء والأرض . وقد روي عن أبي الجلد أنه قال: الرعد: الريح . واسم أبي الجلد: جيلان بن أبي فروة البصري ، وقد روى عنه قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه اصطكاك أجرام السحاب ، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي البرق ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه مخاريق يسوق بها الملك السحاب ، روي هذا المعنى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول علي بن أبي طالب . وفي رواية عن علي قال: هو ضربة بمخراق من حديد . وعن ابن عباس: أنه ضربة بسوط من نور . قال ابن الأنباري: المخاريق: ثياب تلف ، ويضرب بها الصبيان بعضهم بعضا ، فشبه السوط الذي يضرب به السحاب بذلك المخراق .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 44 ] قال عمرو بن كلثوم:


                                                                                                                                                                                                                                      كأن سيوفنا فينا وفيهم     مخاريق بأيدي لاعبينا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد: البرق مصع ملك ، والمصع: الضرب والتحريك .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن البرق: الماء ، قاله أبو الجلد ، وحكى ابن فارس أن البرق: تلألؤ الماء .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه نار تتقدح من اصطكاك أجرام السحاب لسيره ، وضرب بعضه لبعض ، حكاه شيخنا .

                                                                                                                                                                                                                                      والصواعق: جمع صاعقة ، وهي صوت شديد من صوت الرعد يقع معه قطعة من نار تحرق ما تصيبه ، وروي عن شهر بن حوشب: أن الملك الذي يسوق السحاب ، إذا اشتد غضبه ، طار من فيه النار ، فهي الصواعق . وقال غيره: هي نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب . قال ابن قتيبة: وإنما سميت صاعقة ، لأنها إذا أصابت قتلت ، يقال: صعقتهم أي: قتلتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية