الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2803 [ ص: 80 ] 111 - باب: عزم الإمام على الناس فيما يطيقون

                                                                                                                                                                                                                              2964 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل قال: قال عبد الله - رضي الله عنه - لقد أتاني اليوم رجل، فسألني عن أمر ما دريت ما أرد عليه، فقال: أرأيت رجلا مؤديا نشيطا، يخرج مع أمرائنا في المغازي، فيعزم علينا في أشياء لا نحصيها؟ فقلت له: والله ما أدري ما أقول لك، إلا أنا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعسى أن لا يعزم علينا في أمر إلا مرة حتى نفعله، وإن أحدكم لن يزال بخير ما اتقى الله، وإذا شك في نفسه شيء سأل رجلا فشفاه منه، وأوشك أن لا تجدوه، والذي لا إله إلا هو ما أذكر ما غبر من الدنيا إلا كالثغب، شرب صفوه وبقي كدره. [فتح: 6 \ 119 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أبي وائل قال: قال عبد الله: لقد أتاني اليوم رجل، فسألني عن أمر ما دريت ما أرد عليه، فقال: أرأيت رجلا مؤديا نشيطا، يخرج مع أمرائنا في المغازي، فيعزم علينا في أشياء لا نحصيها؟ فقلت له: والله ما أدري ما أقول لك، إلا أنا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعسى أن لا يعزم علينا في أمر إلا مرة حتى نفعله، وإن أحدكم لن يزال بخير ما اتقى الله، وإذا شك في نفسه شيء سأل رجلا فشفاه منه، وأوشك أن لا تجدوه، والذي لا إله إلا هو ما أذكر ما غبر من الدنيا إلا كالثغب، شرب صفوه، وبقي كدره.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              المؤدي - بالدال المهملة - هو التام السلاح الشاك. وقال أبو عبيد: معناه: ذو أداة وسلاح تام العدة والشكل. وعبارة ابن التين : تام السلاح، وكامل أداة الحرب. وعبارة غيره: يعني: ذا أداة الحرب كاملة. والمعنى واحد، وهو مهموز، إذ لولاه لكان من أودى: إذا هلك. وقال الداودي : أي: قويا متمكنا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 81 ] ومعنى (لا نحصيها): لا نطيقها؛ من قوله تعالى: علم أن لن تحصوه [المزمل: 20] ويحتمل كما قال الداودي : لا ندري هل هي طاعة أو معصية؟

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فعسى ألا يعزم علينا إلا مرة). يقولوا: فافعلوا كذلك مع العدل.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ما غبر من الدنيا). يعني: ما بقي، والغابر هو الباقي، ومنه قوله تعالى: إلا عجوزا في الغابرين [الشعراء: 171] يعني: ممن تخلف فلم يمض مع لوط. وقال الداودي : يريد ما مضى. وقال بعض أهل اللغة: غبر من الأضداد يقع لما مضى ولما بقي. وقال قوم: الماضي غابر، والباقي غبر. والمراد في الحديث: ما بقي، خلاف قول الداودي، وبه صرح ابن الجوزي وغيره وقال: إنه أشبه لقوله: (ما أذكر).

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (إذا شك في نفسه سأل رجلا فشفاه منه). يقول: من تقوى الله ألا يتقدم فيما يشك منه حتى يسأل من عنده علم من ذلك فيدله على ما فيه شفاؤه منه.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (وأوشك ألا تجدوه) أي: تقرر ذلك عند ذهاب الصحابة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (كالثغب) - هو بثاء مثلثة وبغين معجمة ساكنة ومفتوحة أيضا - وهو أكثر كما قاله القزاز، وقال صاحب "المنتهى": إنه أفصح؛ نقرة في صخرة يستنقع فيها ماء قليل، والجمع ثغاب وثغبان بضم الثاء وكسرها، ومن سكن قال: ثغاب. وقال سيبويه: هو بالسكون: الغدير، والجمع ثغبان، وبالتحريك ذوب الجمد،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 82 ] والجمع: ثغبان، شبه ما في الدنيا (في غدير) ذهب صفوه وبقي كدره، يريد: ما ذهب من خير الدنيا وبقي من شر أهلها. وقيل: إنه: الغدير يكون في غلظ من الأرض أو في ظل جبل لا يصيبه حر الشمس فيبرد ماؤه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي : هو ما اطمأن من متون الأرض يجتمع فيه الماء، وقيل: (النقرة) في الجبل. وقال ابن فارس : الماء المستنقع فيه. وقال الداودي : هو القدح بالماء شرب صفوه وبقي كدره. أي: ذهب خيار الناس وبقي أقلهم ممن خالطهم، ليس مثلهم.

                                                                                                                                                                                                                              والكدر: ما خالطه الماء من غثاء السيل وطينه، وعبارة ابن سيده في "محكمه": هو (بقية) الماء العذب في الأرض. وقيل: هو أخدود تحفره المسايل من عل، فإذا انحطت حفرت أمثال القبور (والديار)، فيمضي السيل عنها ويغادر الماء فيها فتصفقه الريح فليس شيء أصفى منه ولا أبرد، فسمي الماء بذلك المكان، وقيل: كل غدير ثغب، والجمع: أثغاب. وقال ابن الأعرابي : الثغب: ما استظل في الأرض مما يبقى من السيل إذا انحسر يبقى منه في حيد من الأرض، فالماء بمكانه ذلك ثغب. قال: واضطر شاعر إلى إسكان ثانيه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 83 ] إذا تقرر ذلك؛ فالحديث دال على شدة لزوم الناس طاعة الإمام ومن يستعمله الإمام، كما ذكره المهلب، ألا ترى تحرج السائل لعبد الله وتعرفه كيف موقع التخلف عن أمر السلطان من السنة، وتحرج عبد الله من أن يفتيه في ذلك برخصة أو شدة، لكن قد فسر الشارع ذلك في الحديث الذي أمر فيه بعض قواده أن يجمعوا حطبا ويوقدوها، ففعلوا، فقال لهم: "ادخلوها" فتوقفوا، وأخبر بذلك فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف". وقوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [البقرة: 286] يقضي على ذلك كله، وقد كان له أن يكلفها فوق وسعها فلم يفعل وتفضل في أخذ العفو، وفيه: فشكا عبد الله بن مسعود قلة العلماء وتغير الزمن عما كان عليه في وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية