الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر تسيير من سير من أهل الكوفة إلى الشام

وفي هذه السنة سير عثمان نفرا من أهل الكوفة إلى الشام . وكان السبب في ذلك أن سعيد بن العاص لما ولاه عثمان الكوفة حين شهد على الوليد بشرب الخمر ، أمره أن يسير الوليد إليه ، فقدم سعيد الكوفة وسير الوليد وغسل المنبر ، فنهاه رجال من بني أمية كانوا قد خرجوا معه عن ذلك ، فلم يجبهم ، واختار سعيد وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل الكوفة ، فكان هؤلاء دخلته إذا خلا ، وأما إذا خرج فكل الناس يدخل عليه ، [ ص: 512 ] فدخلوا عليه يوما ، فبينا هم يتحدثون قال حبيش بن فلان الأسدي : ما أجود طلحة بن عبيد الله ! فقال سعيد : إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جوادا ، والله لو أن لي مثله لأعاشكم الله به عيشا رغدا . فقال عبد الرحمن بن حبيش ، وهو حدث : والله لوددت أن هذا الملطاط لك ، يعني لسعيد ، وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات الذي يلي الكوفة . قالوا : فض الله فاك ! والله لقد هممنا بك ! فقال أبوه : غلام فلا تجاوزه . فقالوا : يتمنى له سوادنا . قال : ويتمنى لكم أضعافه ، فثار به الأشتر ، وجندب ، وابن ذي الحنكة ، وصعصعة ، وابن الكواء ، وكميل ، وعمير بن ضابئ فأخذوه ، فثار أبوه ليمنع عنه ، فضربوهما حتى غشي عليهما ، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون حتى قضوا منهما وطرا . فسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وفيهم طليحة ، فأحاطوا بالقصر ، وركبت القبائل فعاذوا بسعيد ، فخرج سعيد إلى الناس فقال : أيها الناس قوم تنازعوا وقد رزق الله العافية ، فردهم فتراجعوا . وأفاق الرجلان فقالا : قاتلنا غاشيتك . فقال : لا يغشوني أبدا ، فكفا ألسنتكما ولا تحزبا الناس . ففعلا ، وقعد أولئك النفر في بيوتهم وأقبلوا يقعون في عثمان .

وقيل : بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر عند سعيد بن العاص وجوه أهل الكوفة ، منهم : مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد ، وعلقمة بن قيس النخعيان ، ومالك الأشتر ، وغيرهم ، فقال سعيد : إنما هذا السواد بستان قريش . فقال الأشتر : أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك ؟ وتكلم القوم معه ، فقال عبد الرحمن الأسدي ، وكان على شرطة سعيد : أتردون على الأمير مقالته ؟ وأغلظ لهم . فقال الأشتر : من هاهنا ؟ لا يفوتنكم الرجل ! فوثبوا عليه فوطئوه وطأ شديدا حتى غشي عليه ، ثم جر برجله ، فنضح بماء فأفاق فقال : قتلني من انتخبت . فقال : والله لا يسمر عندي [ ص: 513 ] أحد أبدا . فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيدا ، واجتمع إليهم الناس حتى كثروا ، فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم ، فكتب إليهم أن يلحقوهم بمعاوية ، وكتب إلى معاوية : إن نفرا قد خلقوا للفتنة فأقم عليهم وانههم ، فإن آنست منهم رشدا فاقبل ، وإن أعيوك فارددهم علي .

فلما قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم ، وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق بأمر عثمان ، وكان يتغدى ويتعشى معهم ، فقال لهم يوما :

إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة ، وقد أدركتم بالإسلام شرفا ، وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم ، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا ، ولو لم تكن قريش كنتم أذلة ، إن أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا عن جنتكم ، وإن أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة ، والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم السوء ولا يحمدكم على الصبر ، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم .

فقال رجل منهم ، وهو صعصعة : أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا ، وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا .

فقال معاوية : عرفتكم الآن وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول ، وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلا ، أعظم عليك أمر الإسلام وتذكرني بالجاهلية ! أخزى الله قوما عظموا أمركم ! افقهوا عني ، ولا أظنكم تفقهون أن قريشا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله تعالى ، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم ، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا ، وأمحضهم أنسابا ، وأكملهم مروءة ، ولم يمتنعوا في الجاهلية ، والناس يأكل بعضهم بعضا ، إلا بالله ، فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حولهم ! هل تعرفون عربيا أو عجميا أو أسود أو أحمر إلا وقد أصابه الدهر في بلده وحرمته إلا ما كان من قريش ، فإنهم لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل ، حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة ، فارتضى لذلك خير خير خلقه ، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا ، ثم بنى هذا الملك عليهم ، ونجعل هذه الخلافة فيهم ، فلا [ ص: 514 ] يصلح ذلك إلا عليهم ، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم ، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه ؟ أف لك ولأصحابك !

أما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر القرى ! أنتنها بيتا ، وأعمقها واديا ، وأعرفها بالشر ، وألأمها جيرانا ! لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سب بها ، ثم كانوا ألأم العرب ألقابا وأصهارا ، نزاع الأمم ، وأنتم جيران الخط ، وفعلة فارس ، حتى أصابتكم دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأنت شر قومك ، حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عوجا ، وتنزع إلى الذلة ، ولا يضر ذلك قريشا ولا يضعهم ، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم ، إن الشيطان عنكم غير غافل ، قد عرفكم بالشر فأغرى بكم الناس ، وهو صارعكم ، ولا تدركون بالشر أمرا أبدا إلا فتح الله عليكم شرا منه وأخزى .

ثم قام وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم ، فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال : إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا أبدا ولا يضره ، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة ، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام ، فإن البطر لا يعتري الخيار ، اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم .

فلما خرجوا دعاهم وقال لهم : إني معيد عليكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان معصوما فولاني وأدخلني في أمره ، ثم استخلف أبو بكر فولاني ، ثم استخلف عمر فولاني ، ثم استخلف عثمان فولاني ، ولم يولني أحد إلا وهو عني راض ، وإنما طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء ، وإن الله ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به ، فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون ، فإن الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي للناس سرائركم .

وكتب معاوية إلى عثمان : إنه قدم على أقوام ليست لهم عقول ولا أديان ، أضجرهم العدل ، لا يريدون الله بشيء ، ولا يتكلمون بحجة ، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة ، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم ، وليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم ، فانه سعيدا ومن عنده عنهم ، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب ونكير .

فخرجوا من دمشق فقالوا : لا ترجعوا بنا إلى الكوفة ، فإنهم يشمتون بنا ، ولكن ميلوا [ ص: 515 ] إلى الجزيرة ، فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وكان على حمص ، فدعاهم فقال : يا آلة الشيطان لا مرحبا بكم ولا أهلا ، قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد نشاط ، خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم ، يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم ، لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم لمعاوية ، أنا ابن خالد بن الوليد ، أنا ابن من قد عجمته العاجمات ، أنا ابن فاقئ الردة ! والله لئن بلغني يا صعصعة أن أحدا ممن معي دق أنفك ثم أمصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى ! فأقامهم شهرا كلما ركب أمشاهم ، فإذا مر به صعصعة قال : يا ابن الحطيئة ، أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر ؟ ما لك لا تقول كما بلغني أنك قلت لسعيد ومعاوية ؟ فيقولون : نتوب إلى الله ، أقلنا أقالك الله . فما زالوا به حتى قال : تاب الله عليكم . وسرح الأشتر إلى عثمان ، فقدم إليه ثانيا ، فقال له عثمان : احلل حيث شئت . فقال : مع عبد الرحمن بن خالد . فقال : ذلك إليك ، فرجع إليه .

قيل : وقد روي أيضا نحو ما تقدم ، وزادوا فيه أن معاوية لما عاد إليهم من القابلة وذكرهم كان مما قال لهم : وإني والله لا آمركم بشيء إلا وقد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي ، وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها إلا ما جعل الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فإنه انتخبه وأكرمه ، وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازما . قال صعصعة : قد كذبت ! قد ولدهم خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له ، وكان فيهم البر والفاجر ، والأحمق والكيس . فخرج تلك الليلة من عندهم ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلا ، ثم قال : أيها القوم ردوا خيرا أو اسكتوا وتفكروا ، وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم والمسلمين فاطلبوه . فقال صعصعة : لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله . فقال : أليس أول من ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة نبيه ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ؟ قالوا : بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقال : إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على أحسن ما قدرتم عليه . فقال صعصعة : فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك ، من كان أبوه أحسن قدما في الإسلام من أبيك وهو أحسن في الإسلام قدما منك .

فقال : والله إن لي في الإسلام قدما ولغيري كان أحسن قدما [ ص: 516 ] مني ، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب ، فلو كان غيري أقوى مني لم تكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري ، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي ، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي فاعتزلت عمله ، فمهلا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر ، ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيكم ما استقامت لأهل الإسلام يوما ولا ليلة ، فعاودوا الخير وقولوه ، وإن لله لسطوات ، وإني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن ، فيحلكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل . فوثبوا عليه وأخذوا رأسه ولحيته ، فقال : مه إن هذه ليست بأرض الكوفة ، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم ، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضا !

ثم قام من عندهم ، وكتب إلى عثمان نحو الكتاب المتقدم ، فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة ، فردهم فأطلقوا ألسنتهم ، فضج سعيد منهم إلى عثمان ، فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بحمص ، فسيرهم إليها ، فأنزلهم عبد الرحمن وأجرى عليهم رزقا ، وكانوا : الأشتر ، وثابت بن قيس الهمداني ، وكميل بن زياد ، وزيد بن صوحان ، وأخاه صعصعة ، وجندب بن زهير الغامدي ، وجندب بن كعب الأزدي ، وعروة بن الجعد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وابن الكواء .

قيل : سأل معاوية ابن الكواء عن نفسه قال : أنت بعيد الثرى كثير المرعى طيب البديهة بعيد الغور ، الغالب عليك الحلم ، ركن من أركان الإسلام ، سدت بك فرجة مخوفة . قال : فأخبرني عن أهل الأحداث من الأمصار فإنك أعقل أصحابك . قال : أما أهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه ، وأما أهل الكوفة فإنهم يردون جميعا ويصدرون شتى ، وأما أهل مصر فهم أوفى الناس بشر وأسرعهم ندامة ، وأما أهل الشام فهم أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية