الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2813 2976 - حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن نافع بن جبير قال: سمعت العباس يقول للزبير - رضي الله عنهما - : ها هنا أمرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركز الراية؟.

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: حديث ثعلبة بن أبي مالك القرظي، أن قيس بن سعد الأنصاري - وكان صاحب لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد الحج فرجل.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الحديث طرف منه، وتمامه: فرجل أحد شقي رأسه، وقد ذكره بتمامه آخر الكتاب، وذكر منه هنا اللواء فقط؛ لأجل ما ترجم له، ولفظ الإسماعيلي كذلك: فإذا هديه قد قلد فأهل بالحج ولم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 101 ] يرجل شق رأسه الآخر، وكذا ذكره البرقاني فيما ذكره الحميدي .

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: (فرجل) أي: سرح شعره لطول بقائه شعثا.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: حديث سلمة بن الأكوع: كان علي تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر، وكان به رمد، وفيه: "لأعطين الراية - أو: ليأخذن - غدا رجل يحبه الله ورسوله - أو قال: يحب الله ورسوله - يفتح الله عليه". قالوا: هذا علي. فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففتح الله عليه.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: حديث نافع بن جبير قال: سمعت العباس يقول للزبير: ها هنا أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركز الراية؟

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              ثعلبة بن أبي مالك هذا له رؤية، وقيس بن سعد هو ابن عبادة بن دليم أبو عبد الله الخزرجي، صاحب شرطة رسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ضخما طويلا نبيلا جوادا سيدا من ذوي الرأي والدهاء والتقدم، مات بالمدينة في آخر خلافة معاوية، وأرسل ملك الروم إلى معاوية أن أرسل إلي سراويل أتم رجل عندك، فقال لقيس: إذا بلغت منزلك فابعث إلينا بسراويلك، فخلع السراويل مكانه وألقاه إليه، فقيل له: فعلت هذا بنفسك؟ قال: خشيت أن يقال: إنه سراويل رجل من قوم عاد. واستعمله (علي) على مصر فضيق على معاوية، فجعل معاوية يقول في الملأ: جزى الله قيسا خيرا، ما يكون عند علي

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 102 ] (أمر) يكيدنا به إلا أعلمنا به. فبلغ ذلك عليا فعزله واستعمل محمد بن أبي بكر مكانه، فقال له قيس بن سعد: إن أمير المؤمنين خدع في أمري، ولكن افعل كذا وافعل كذا واحترس من كذا فظن محمد أنه غشه فخالف ذلك فأتي عليه.

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : فيه أن لواء الإمام ينبغي أن يكون له صاحب معلوم، وإن كان من الأنصار فهو أولى للاستنان بالشارع؛ لأن قيس بن سعد كان من الأنصار، وهم الذين كانوا عاقدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتلوا الناس كافة حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فهم أشد الناس في قتال العدو (بعد ما) هاجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبالأنصار نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين أول من نادى.

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث علي أيضا: أن الراية لا يجب أن يحملها إلا من ولاه الإمام إياها، ولا تكون لمن أخذها إلا (بولاية).

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطبري : فيه الدلالة البينة على أن إمام المسلمين إذا وجه جيشا أو سرية أن يؤمر عليهم أميرا موثوقا بنيته وبصيرته في قتالهم، ممن له بأس ومعرفة لسياسة الجيش وتدبير الحرب، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - وجه إلى خيبر من أفضل (الصحابة) وأنفذهم بصيرة وغناء وأنكاهم للعدو، وجعل له لواء الراية يجتمع جيشه تحتها، فيثبتوا لثباتها عند اللقاء (ويرجفوا لرجفتها).

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 103 ] وقوله: ("لأعطين الراية") عرفها بأل لأنها كانت من سنته في حروبه، فينبغي أن يسار بسيرته في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وروي أن لواءه كان أبيض ورايته سوداء من مرط مرجل لعائشة، رواه ابن عباس وبريدة فيما ذكره ابن أبي عاصم، وعن البراء: كانت سوداء مربعة. وقال جابر: دخل رسول الله مكة ولواؤه أبيض. وقال مجاهد: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لواء أغبر. وعند الرشاطي: الرايات إنما كانت بخيبر، وإنما كانت الألوية قبل. وروى ابن أبي عاصم من حديث سماك عن رجل من بني عجل قال: ورأيت لواء أبيض، والناس يقولون: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وعن سماك عن رجل من قومه قال: رأيت راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفراء. وعن الحارث بن حسان: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا رايات سود، فقلت: من هذا؟ قالوا: عمرو بن العاصي قدم من غزاة، وعقد لبني سليم راية حمراء وللأنصار صفراء. وروي أن راية علي يوم صفين كانت حمراء، مكتوب فيها: محمد رسول الله، وكانت له راية سوداء.

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : وفي حديث الزبير أن الراية لا يركزها إلا بإذن الإمام؛ لأنها علامة على الإمام ومكانه، فلا ينبغي أن يتصرف فيها إلا بأمره، ومما يدل على أنها ولاية قوله - صلى الله عليه وسلم - : "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها خالد من غير إمرة ففتح له" فهذا نص في ولايتها.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن الأثير: ولا يمسك اللواء إلا صاحب الجيش.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: في "تاريخ (أبي) الفرج الأموي "أن عمر سئل عن الشعراء

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 104 ] فقال: زهير بن أبي سلمى أمير الشعراء، فقيل له: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "امرؤ القيس حامل لواء الشعراء وقائدهم إلى النار" فقال: إن الراية لا تكون إلا مع الأمير.


                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              اللواء ما عقد في طرف الرمح ويكون معه، وبذلك سمي لواء، والراية ثوب يجعل في طرف الرمح ويخلى كهيئته تصفقه الريح، قاله ابن العربي .

                                                                                                                                                                                                                              (فائدة) أخرى:

                                                                                                                                                                                                                              في حديث سلمة أن الرمد عذر والفضل له أن يخرج. وفي حديث آخر: فبات الناس يتشوفون إليها وغدوا كذلك، فقال: "أين علي؟ " فقالوا: رمد. فيحتمل كما قال الداودي أن يقول: هذا علي حين قدم، ثم يدعوه بعد ذلك. فظاهر الحديث: (فأعطاه الراية) أن ذلك كان بإثر قولهم (هذا علي).

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثالثة: في حديث علي الخبر عن بعض أعلام النبوة، وذلك خبره عن الغيب الذي لا يكون مثله إلا بوحي من الله، وهو قوله: "يفتح الله على يديه".




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية