الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( باب النوافل ) [ ص: 439 - 441 ]

( السنة ركعتان قبل الفجر )

التالي السابق


( باب النوافل )

ابتدأ بسنة الفجر لأنها أقوى السنن حتى روى الحسن عن أبي حنيفة لو صلاها قاعدا من غير عذر لا يجوز ، وقالوا : العالم إذا صار مرجعا للفتوى جاز له ترك سائر السنن لحاجة الناس إلا سنة الفجر .

وفي المبسوط ابتدأ [ ص: 439 ] بسنة الظهر لأنها أول في الوجود لأن السنة تبع للفرض ، وأول صلاة فرضت صلاة الظهر : يعني أول صلاة صليت بعد الافتراض ثم اختلف في الأفضل بعد ركعتي الفجر ، قال الحلواني : ركعتا المغرب فإنه صلى الله عليه وسلم لم يدعهما سفرا ولا حضرا ، ثم التي بعد الظهر لأنها سنة متفق عليها بخلاف التي قبلها لأنه قيل هي للفصل بين الأذان والإقامة ، ثم التي بعد العشاء ، ثم التي قبل الظهر ، ثم التي قبل العصر ، ثم التي قبل العشاء ، وقيل التي قبل العشاء ، والتي قبل الظهر وبعده ، وبعد المغرب كلها سواء .

وقيل التي قبل الظهر آكد ، وصححه المحسن وقد أحسن لأن نقل المواظبة الصريحة عليها أقوى من نقل مواظبته على غيرها من غير ركعتي الفجر وسننبه عليه ، ولو ترك الأربع قبل الظهر والتي بعدها أو ركعتي الفجر قيل لا تلحقه الإساءة لأن محمدا سماه تطوعا ، إلا أن يستخف فيقول هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا لا أفعله فحينئذ يكفر .

وفي النوازل ترك سنن الصلاة الخمس إن لم يرها حقا كفر ، وإن رآها وترك قيل لا يأثم ، والصحيح أنه يأثم لأنه جاء الوعيد بالترك ، ولا يخفى أن الإثم منوط بترك الواجب وقد { قال صلى الله عليه وسلم للذي قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك شيئا : أفلح إن صدق } نعم يستلزم ذلك الإساءة وفوات الدرجات والمصالح الأخروية المنوطة بفعل سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذا إذا تجرد الترك عن استخفاف بل يكون مع رسوخ الأدب والتعظيم ، فإن لم يكن كذلك دار بين الكفر والإثم بحسب الحال الباعثة له على الترك ، ثم هل الأولى وصل السنة التالية للفرض له أو لا ؟ في شرح الشهيد القيام إلى السنة متصل بالفرض مسنون ، وفي الشافي كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم يمكث قدر ما يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، وكذا عن البقائي .

وقال الحلواني : لا بأس بأن يقرأ بين الفريضة والسنة الأوراد . ويشكل على الأول ما في سنن أبي داود عن { أبي رمثة قال : صليت هذه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو بكر وعمر يقومان في الصف المقدم عن يمينه وكان رجل قد شهد التكبيرة الأولى من الصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سلم عن يمينه وعن يساره حتى رأينا بياض خديه ، ثم انتقل كانتقال أبي رمثة : يعني نفسه ، فقام الرجل الذي أدرك معه التكبيرة الأولى ليشفع ، فوثب عمر فأخذ بمنكبيه فهزه ثم قال : اجلس فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنهم لم يكن لهم بين صلاتهم فصل ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره فقال : أصاب الله بك يا ابن الخطاب } . ولا يرد هذا على الثاني إذ قد يجاب بأن قوله اللهم أنت السلام ومنك السلام إلخ فصل ، فمن ادعى فصلا أكثر منه فلينقله ، وقولهم الأفضل في السنن حتى التي بعد المغرب المنزل لا يستلزم مسنونية الفصل بأكثر إذ الكلام فيما إذا صلى السنة في محل الفرض ماذا يكون الأولى ، وما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة { لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد } وقوله صلى الله عليه وسلم لفقراء المهاجرين { تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين } وما روي أنه كان صلى الله عليه وسلم يقول أيضا { لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون } لا يقتضي وصل هذه الأذكار .

بل كونها عقيب السنة من [ ص: 440 ] من غير اشتغال بما ليس هو من توابع الصلاة يصحح كونه دبرها وكونه صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي السنن في المنزل كما سنذكره ، فبالضرورة يكون قوله لها قبلها غير لازم ، بل يجوز كونها بعدها في المنزل ، ولا يمتنع نقله فكثيرا ما نقلوا مما كان من عمله في البيت إما بواسطة نسائه أو بسماعهم صوته ، وكانت حجرة صلى الله عليه وسلم صغيرة قريبة جدا ، أو سمع منه قبلها حال قيامه منصرفا إلى منزله أو جالسا بعد صلاة لا سنة بعدها كالفجر والعصر .

وما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم } . قال ابن عباس : { كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته وفي لفظ : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير } ، مع ما علم مما سنثبته بالصحاح من الأخبار من أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي السنن في المنزل ، بل وأنكر على من يصليها في المسجد على ما في أبي داود والترمذي والنسائي { أنه صلى الله عليه وسلم أتى مسجد عبد الأشهل فصلى فيه المغرب ، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون : أي يتنفلون ، فقال : هذه صلاة البيوت } لا يستلزم الفصل بأكثر ، وما المانع من كون ذلك الذكر هو ذلك القدر يرفعون به أصواتهم إذا فرغوا .

وأما التكبير المروي فالله أعلم به ، قيل لم يعرف أحد من الفقهاء قاله إلا ما ذكره بعضهم في البعوث والعساكر بعد الصبح والمغرب ثلاث تكبيرات عالية ; والحاصل أنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم الفصل بالأذكار التي يواظب عليها في المساجد في عصرنا من قراءة آية الكرسي والتسبيحات وأخواتها ثلاثا وثلاثين وغيرها بل ندب هو إليها ، والقدر المتحقق أن كلا من السنن والأوراد له نسبة إلى الفرائض بالتبعية ، والذي ثبت عنه أنه كان يؤخر السنة عنه من الأذكار ، وهو ما روى مسلم والترمذي عن عائشة قالت { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام } فهذا نص صريح في المراد ، وما يتخايل أنه يخالفه لم يقو قوته ، أو لم تلزم دلالته على ما يخالفه فوجب اتباع هذا النص .

واعلم أن المذكور في حديث عائشة رضي الله عنها عنها هذا هو قولها لم يقعد إلا مقدار ما يقول ، وذلك لا يستلزم سنية أن يقول ذلك بعينه في دبر كل صلاة إذ لم تقل إلا حتى يقول أو إلى أن يقول ، فيجوز كونه صلى الله عليه وسلم كان مرة يقوله ومرة يقول غيره مما ذكرنا من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلخ ، وما ضم إليه في بعض الروايات مما ذكرنا من قوله لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله إلخ ، ومقتضى العبارة حينئذ أن السنة أن يفصل بذكر قدر ذلك وذلك يكون تقريبا ، فقد يزيد قليلا وقد ينقص قليلا ، وقد يدرج وقد يرتل فأما ما يكون زيادة غير مقاربة مثل العدد السابق من التسبيحات [ ص: 441 ] والتحميدات والتكبيرات فينبغي استنان تأخيره عن السنة ألبتة ، وكذا آية الكرسي ، على أن ثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم مواظبة لا أعلمه ، بل الثابت ندبه إلى ذلك ، وليس يلزم من ندبه إلى شيء مواظبته عليه وإلا لم يفرق حينئذ بين السنة والمندوب ، وكان يستدل بدليل الندب على السنية وليس هذا على أصولنا .

وقول الحلواني عندي أنه حكم آخر لا يعارض القولين لأنه إنما قال لا بأس إلخ ، والمشهور في هذه العبارة كونه لما خلافه أولى فكان معناها أن الأولى أن لا يقرأ الأوراد قبل السنة ، ولو فعل لا بأس به فأفاد عدم سقوط السنة بذلك حتى إذا صلى بعد الأوراد يقع سنة مؤداة لا على وجه السنة ، وإذا قالوا لو تكلم بعد الفرض لا تسقط السنة لكن ثوابها أقل فلا أقل من كون قراءة الأوراد لا تسقطها ، وقد قيل في الكلام أنه يسقطها ، والأول أولى ، ففي البخاري وأبي داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة } واعلم أن هذا الذي عن الحلواني يوافقه ما عن أبي حنيفة في المقتدي والمنفرد ، وذكر في حق الإمام خلافه ، وعبارته في الخلاصة هكذا : إذا سلم الإمام من الظهر أو المغرب أو العشاء كرهت له المكث قاعدا لكنه يقوم إلى التطوع ، ولا يتطوع في مكان الفريضة ولكن ينحرف يمنة أو يسرة أو يتأخر ، وإن شاء رجع إلى بيته يتطوع وإن كان مقتديا ، أو يصلي وحده إن لبث في مصلاه يدعو جاز .

وكذا إن قام إلى التطوع في مكانه أو تقدم أو تأخر أو انحرف يمنة أو يسرة جاز والكل سواء ، وفي الصلاة التي لا يتطوع بعدها يكره المكث في مكانه قاعدا مستقبلا ، ثم هو بالخيار إن شاء ذهب وإن شاء جلس في محرابه إلى طلوع الشمس وهو أفضل ، ويستقبل القوم بوجهه إذا لم يكن بحذائه مسبوق ، فإن كان ينحرف يمنة أو يسرة والصيف والشتاء سواء هذا هو الصحيح ، هذا حال الإمام .

وقوله الكل سواء : يعني في إقامة السنة أما الأفضل فقد صرح فيما يأتي بأن المنزل أفضل ( قوله السنة ) يجب حمله على ما دعا إليه صلى الله عليه وسلم من غير إيجاب ، وهو أعم من السنة والمندوب ، وهذا لأنه عد منها ما قبل العصر والعشاء ، وذلك مستحب لا سنة راتبة




الخدمات العلمية