الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها : أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل ، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه أو يقتلوا ، فإنهم إنما يعبدون رب محمد ، وهو حي لا يموت ، فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه ، وما جاء به ، فكل نفس ذائقة الموت ، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليخلد لا هو ولا هم ، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد ، فإن الموت لا بد منه سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي ، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه ، لما صرخ الشيطان إن محمدا قد قتل ، فقال : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [ آل عمران : 144 ] ، والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة ، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا ، فظهر أثر هذا العتاب ، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتد من ارتد على عقبيه ، وثبت الشاكرون على دينهم ، فنصرهم الله وأعزهم ، وظفرهم بأعدائهم ، وجعل العاقبة لهم .

ثم أخبر سبحانه أنه جعل لكل نفس أجلا لا بد أن تستوفيه ، ثم تلحق به ، فيرد الناس كلهم حوض المنايا موردا واحدا ، وإن تنوعت أسبابه ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير .

ثم أخبر سبحانه أن جماعة كثيرة من أنبيائه قتلوا وقتل معهم أتباع لهم [ ص: 202 ] كثيرون فما وهن من بقي منهم لما أصابهم في سبيله وما ضعفوا وما استكانوا وما وهنوا عند القتل ، ولا ضعفوا ولا استكانوا ، بل تلقوا الشهادة بالقوة والعزيمة والإقدام ، فلم يستشهدوا مدبرين مستكينين أذلة ، بل استشهدوا أعزة كراما مقبلين غير مدبرين ، والصحيح أن الآية تتناول الفريقين كليهما .

ثم أخبر سبحانه عما استنصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربهم أن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على أعدائهم ، فقال : ( وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) [ آل عمران : 147 ] .

لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم ، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها ، وأنها نوعان : تقصير في حق ، أو تجاوز لحد ، وأن النصرة منوطة بالطاعة ، قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، وإسرافنا في أمرنا ، ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم ، فسألوه ما يعلمون أنه بيده دونهم ، وأنه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يثبتوا ولم ينتصروا ، فوفوا المقامين حقهما : مقام المقتضي ، وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه ، ومقام إزالة المانع من النصرة ، وهو الذنوب والإسراف ، ثم حذرهم سبحانه من طاعة عدوهم ، وأخبر أنهم إن أطاعوهم خسروا الدنيا والآخرة ، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين أطاعوا المشركين لما انتصروا وظفروا يوم أحد .

ثم أخبر سبحانه أنه مولى المؤمنين ، وهو خير الناصرين فمن والاه فهو المنصور .

ثم أخبرهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب الذي يمنعهم من الهجوم عليهم والإقدام على حربهم ، وأنه يؤيد حزبه بجند من الرعب ينتصرون به على [ ص: 203 ] أعدائهم ، وذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله ، وعلى قدر الشرك يكون الرعب ، فالمشرك بالله أشد شيء خوفا ورعبا والذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالشرك لهم الأمن والهدى والفلاح ، والمشرك له الخوف والضلال والشقاء .

ثم أخبرهم أنه صدقهم وعده في نصرتهم على عدوهم ، وهو الصادق الوعد ، وأنهم لو استمروا على الطاعة ولزوم أمر الرسول لاستمرت نصرتهم ، ولكن انخلعوا عن الطاعة ، وفارقوا مركزهم ، فانخلعوا عن عصمة الطاعة ، ففارقتهم النصرة ، فصرفهم عن عدوهم عقوبة وابتلاء وتعريفا لهم بسوء عواقب المعصية ، وحسن عاقبة الطاعة .

ثم أخبر أنه عفا عنهم بعد ذلك كله ، وأنه ذو فضل على عباده المؤمنين . قيل للحسن : كيف يعفو عنهم وقد سلط عليهم أعداءهم حتى قتلوا منهم من قتلوا ، ومثلوا بهم ونالوا منهم ما نالوه ؟ فقال : لولا عفوه عنهم لاستأصلهم ، ولكن بعفوه عنهم دفع عنهم عدوهم بعد أن كانوا مجمعين على استئصالهم .

ثم ذكرهم بحالهم وقت الفرار مصعدين أي جادين في الهرب والذهاب في الأرض ، أو صاعدين في الجبل لا يلوون على أحد من نبيهم ولا أصحابهم ، والرسول يدعوهم في أخراهم إلى عباد الله أنا رسول الله .

فأثابهم بهذا الهرب والفرار غما بعد غم : غم الهزيمة والكسرة ، وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمدا قد قتل .

وقيل : جازاكم غما بما غممتم رسوله بفراركم عنه وأسلمتموه إلى عدوه ، فالغم الذي حصل لكم جزاء على الغم الذي أوقعتموه بنبيه ، والقول الأول أظهر لوجوه :

أحدها : أن قوله : ( لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ) تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم ، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من [ ص: 204 ] الظفر وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح ، فنسوا بذلك السبب ، وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر .

الثاني : أنه مطابق للواقع ، فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة ، ثم أعقبه غم الهزيمة ، ثم غم الجراح التي أصابتهم ، ثم غم القتل ، ثم غم سماعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم ، وليس المراد غمين اثنين خاصة ، بل غما متتابعا لتمام الابتلاء والامتحان .

الثالث : أن قوله : " بغم " من تمام الثواب ، لا أنه سبب جزاء الثواب ، والمعنى : أثابكم غما متصلا بغم جزاء على ما وقع منهم من الهروب ، وإسلامهم نبيهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وترك استجابتهم له ، وهو يدعوهم ، ومخالفتهم له في لزوم مركزهم ، وتنازعهم في الأمر وفشلهم ، وكل واحد من هذه الأمور يوجب غما يخصه ، فترادفت عليهم الغموم ، كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها ، ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر .

ومن لطفه بهم ورأفته ورحمته أن هذه الأمور التي صدرت منهم كانت من موجبات الطباع ، وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة ، فقيض لهم بلطفه أسبابا أخرجها من القوة إلى الفعل ، فترتب عليها آثارها المكروهة ، فعلموا حينئذ أن التوبة منها ، والاحتراز من أمثالها ، ودفعها بأضدادها أمر متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به ، فكانوا أشد حذرا بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها .


وربما صحت الأجسام بالعلل



ثم إنه تداركهم سبحانه برحمته ، وخفف عنهم ذلك الغم ، وغيبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمنا منه ورحمة ، والنعاس في الحرب علامة النصرة [ ص: 205 ] والأمن ، كما أنزله عليهم يوم بدر ، وأخبر أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نفسه لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه ، وأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية .

وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وأنه يسلمه للقتل ، وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره ، ولا حكمة له فيه ، ففسر بإنكار الحكمة ، وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسوله ، ويظهره على الدين كله ، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في ( سورة الفتح ) حيث يقول : ( ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ) [ الفتح : 6 ] ، وإنما كان هذا ظن السوء ، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل ، وظن غير الحق لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء ، بخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهيه ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم ، ولجنده بأنهم هم الغالبون ، فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله ، ولا يتم أمره ، ولا يؤيده ويؤيد حزبه ، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ، ويظهرهم عليهم ، وأنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل الشرك على التوحيد ، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا ، فقد ظن بالله ظن السوء ، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته ، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك ، وتأبى أن يذل حزبه وجنده ، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به ، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله ، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته ، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة [ ص: 206 ] بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها ، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها ، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب ، وإن كانت مكروهة له فما قدرها سدى ، ولا أنشأها عبثا ، ولا خلقها باطلا ، ( ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) [ ص : 27 ] وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم ، ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته ، وعرف موجب حمده وحكمته ، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه ، فقد ظن به ظن السوء .

التالي السابق


الخدمات العلمية