الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج ، الآية \ 61.

روى إسماعيل بن إسحاق عن سعيد بن المسيب، أن هذه الآية نزلت في ناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيحهم مع الأعمى والأعرج وعند الأقارب، وكانوا يأمرونهم بأن يأكلوا من بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وكانوا يتقون الأكل خشية أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

[ ص: 323 ] وروى أيضا أنهم كانوا إذا اجتمعوا للأكل، عزلوا الأعمى والأعرج والمريض كراهة أن يصيبوا من الطعام ما يصيبون، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وذكر الحسن أن المراد به رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في باب الجهاد، وأن قوله : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ، الآية \ 61. كلام مستأنف، فقد كان أحدهم لا يحلب ناقة إلا أن يجد من يشرب من لبنها، ولا يأكل في بيت أحد تكرما، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهو الذي اختاره الأكثرون، ويحمل قوله : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم على أن ذلك كان رخصة في الأول، وأباح تعالى الأكل من مال من ذكره، وأباح أن يأكلوا من البيوت التي مفاتيحها في أيديهم، وبيوت أصدقائهم دون إذن، حضروا أم غابوا، ثم نسخ ذلك بما ظهر في الشرع، من أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه، ودل على ذلك بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ، وقد كان في أزواج النبي عليه الصلاة والسلام من كان لهن الآباء والإخوان، فلما عم بالنهي علم به النسخ.

فإن قيل : فما الذي يليق بالظاهر؟ فجوابنا أنه يبعد أن يكون المراد به : ليس على الأعمى حرج، إلا ما يتصل بالأداء، لأنه رفع الحرج والجناح عنه، ثم إنه ذكر بعد ذلك أمرا مخصوصا، فوجب حمله على ذلك الأمر، فأما قوله تعالى : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من [ ص: 324 ] بيوتكم ، فلعل الأولى من الأقوال أنه ورد فيمن كان يأذن ويشح من هذه الطائفة، وكان القوم يتوقون لبعض هذه الوجوه التي رويناها، فبين الله تعالى أن إباحة ذلك إن كان واردا مع طيبة النفس، لا وجه للنسخ فيه.

فإذا قيل : فإن كان كذلك، فلم إذا خصصهم بالذكر، وعند الإذن وطيب النفس الكل سواء؟

فالجواب أنهم خصوا بالذكر، لأنهم كانوا يتقدمون عند السفر والغزوات إلى أقربائهم، وإلى من خلفوهم من الزمنى والعرجى والعميان، أن يأكلوا من منازلهم، فنزلت الآية على هذا السبب. فلذلك خصوا بالذكر. . فأما حمله على أن ذلك يحل بلا إذن فبعيد.

ودل بقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا على أمور : منها أنه يحل للجماعة أن يجتمعوا على طعامها، وإن كان أكلها من ذلك الطعام يتفاضل، وقد كان يجوز أن يظن أن ذلك محرم، من حيث إنهم لا يستوون في قدر ما ظهر من الطعام، ثم يتفاضلون في الأكل، فأباح الله تعالى ذلك.

ومنها : أن مؤاكلة من يقصر أكله عن أكل الباقين، لأن الأعمى إذا لم يبصر، فلا يمكنه أن يأكل أكل البصير، فأباح الله تعالى ذلك، وأباح انفراد المرء عن الجماعة في الأكل، ويجوز أن يظن ذلك مستقبحا في الشرع كما يستقبحه أهل المروءة.

التالي السابق


الخدمات العلمية