الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض قيل : إن هذا استئناف لبيان حال الكافرين التي أشير إلى شدتها ، والظاهر عندي أنه جواب فكيف في الآية قبلها ، ومعنى تلك الآية : فكيف يكون حال الناس إذا جئنا من كل أمة بشهيد إلخ .

                          والجواب : يومئذ يود أي يحب ويتمنى الذين كفروا وعصوا الرسول فلم يتبعوا ما جاء به أن يصيروا ترابا تسوى بهم الأرض فيكونوا وإياها سواء كما قال في آخر سورة النبأ : ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ( 78 : 4 ) ، وقيل : أن يدفنوا وتسوى بهم الأرض أو تسوى عليهم كما تسوى على الموتى عادة ، وقيل : يتمنون أن تكون الأرض لهم فيدفعوها فدية ، فتكون مساوية لهم : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ( 5 : 36 ) ، وقرأ نافع وابن عامر ( تسوى ) بفتح التاء وتشديد السين المفتوحة على أن أصلها تتسوى فأدغمت التاء في السين لقربها منها في المخرج ، وقرأها حمزة بتخفيف السين مع الإمالة بحذف تاء تتسوى الثانية وهي لغة مشهورة .

                          ولا يكتمون الله حديثا عطف على يود أي : لا يكتمون شيئا من خبر كفرهم ولا سيئاتهم في ذلك الوقت الذي تقوم به الحجة عليهم بشهادة أنبيائهم الذين كانوا ينسبون إليهم ما كانوا عليه من كفر وأباطيل وبدع وتقاليد ، قال بعض المفسرين : إن قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا ليس خبرا مجردا وإنما الواو فيه للحال ، والمعنى أنهم يودون لو يموتون أو يكونون ترابا فتسوى بهم الأرض ، ولا يكونون كتموا الله تعالى وكذبوا أمامه على أنفسهم بإنكار شركهم وضلالهم الذي بينه تعالى من حالهم في الآخرة بقوله : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 6 : 22 - 24 ) ، فهم عندما يكذبون وينكرون شركهم ، إما لاعتقادهم أن ما كانوا عليه ليس شركا ، وإنما هو استشفاع وتوسل إلى الله بمن اختار من خلقه ، وإما مكابرة وتوهما أن ذلك ينفعهم ويدرأ عنهم العذاب ، عند ذلك يشهد عليهم الأنبياء المرسلون أنهم لم يكونوا متبعين فيما أحدثوا من شركهم ، وإنما كان شيئا ابتدعوه من عند أنفسهم [ ص: 91 ] بقياس ربهم على ملوكهم الظالمين وأمرائهم المستبدين الذين يتركون عقاب بعض المسيئين بشفاعة المقربين إليهم من بطانتهم ويقربون من لا يستحق التقريب بشفاعتهم أيضا ، فإذا شهدوا عليهم تمنوا لو كانوا سويت بهم الأرض وما افتروا ذلك الكذب ، وروى الحاكم عن ابن عباس وصححه : أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض ، ومن جوز أن يكون ذلك خبرا مجردا معطوفا على يود قال : إنهم ينكرون في بعض مواقف القيامة ، ويعترفون في بعضها ، ويصح أن يقال : إنهم كذبوا وكتموا في ذلك اليوم ، وأن يقال : إنهم اعترفوا وما كذبوا بأن يكون حصل كل واحد من النقيضين في وقت غير الوقت الذي حصل فيه الآخر ، ومثل هذا مشاهد في محاكمة المجرمين في الدنيا ينكرون ثم يقرون ، ويكذبون ثم يصدقون ، وقال بعضهم : إن المراد بالكتمان هنا كتمان الحق في الدنيا ككتمان أهل الكتاب صفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والبشارات به ، وظاهر كلام الجمهور أن الحديث في الآية هو الكلام ، وذهب البقاعي إلى أن معناه الشيء المحدث ، أو المبتدع الذي لم يجئ به رسلهم ، قال : أي شيئا أحدثوه ، بل يفتضحون بسيئ أخبارهم ، ويحملون جميع أوزارهم ، جزاء لما كانوا يكتمون من آياته ، وما نصب للناس من بيناته .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية