الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب آخر منه

                                                                                                          269 حدثنا قتيبة حدثنا عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله بن حسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يعمد أحدكم فيبرك في صلاته برك الجمل قال أبو عيسى حديث أبي هريرة حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه وقد روي هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن سعيد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( يعمد أحدكم فيبرك في صلاته برك الجمل ) بتقدير همزة الاستفهام الإنكاري ، أي أيعمد أحدكم فيضع ركبتيه قبل يديه في الصلاة كما يضع البعير ركبتيه قبل يديه ، أي لا يفعل هكذا بل يضع يديه قبل ركبتيه . وفي رواية أحمد وأبي داود والنسائي : إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه ، انتهى . قال القاري في شرح المشكاة في شرح هذا الحديث : " إذا سجد أحدكم فلا يبرك " نهي وقيل نفي " كما يبرك البعير " أي لا يضع ركبتيه قبل يديه كما يبرك البعير ، شبه ذلك ببروك البعير مع أنه يضع يديه قبل رجليه ، لأن ركبة الإنسان في الرجل ، وركبة الدواب في اليد ، إذا وضع ركبتيه أولا فقد شابه الإبل في البروك " وليضع " بسكون اللام وتكسر " يديه قبل ركبتيه " قال التوربشتي : كيف نهى عن بروك البعير ، ثم أمر بوضع اليدين قبل الركبتين ، والبعير يضع اليدين قبل الرجلين ؟ والجواب : أن الركبة من الإنسان في الرجلين ، ومن ذوات [ ص: 120 ] الأربع في اليدين ، انتهى كلام القاري . والحديث استدل به من قال باستحباب وضع اليدين قبل الركبتين ، وهو قول مالك ، وهو قول أصحاب الحديث ، وقال الأوزاعي : أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم ، وهي رواية عن أحمد كما عرفت هذا كله في الباب المتقدم . قال الحافظ في الفتح : قال مالك : هذه الصفة أحسن في خشوع الصلاة ، وبه قال : وعن مالك وأحمد رواية بالتخيير ، انتهى .

                                                                                                          قوله : ( حديث أبي هريرة حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه ) حديث أبي هريرة هذا أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ، وسكت عنه أبو داود . قال الحازمي في كتاب الاعتبار بعد روايته : وهو على شرط أبي داود والترمذي والنسائي أخرجوه في كتبهم ، انتهى . وقال القاري في المرقاة : قال ابن حجر : سنده جيد ، انتهى . قلت : حديث أبي هريرة هذا صحيح أو حسن لذاته رجاله كلهم ثقات ، فأما قتيبة فهو ابن سعيد بن جميل الثقفي أبو رجاء البغلاني ثقة ثبت كذا في التقريب ، وأما عبد الله بن نافع فهو الصائغ أبو محمد المدني وثقه ابن معين والنسائي كذا في الخلاصة ، وأما محمد بن عبد الله بن الحسن فوثقه النسائي قاله الخزرجي . وقال الحافظ : يلقب بالنفس الزكية ثقة من السابعة . وأما أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة فقال البخاري : أصح الأسانيد أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قاله الخزرجي

                                                                                                          فإن قلت : قال الحافظ في التقريب في ترجمة عبد الله بن نافع الصائغ ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين ، انتهى ، فإذا كان في حفظه لين فكيف يكون حديثه صحيحا .

                                                                                                          قلت : قد عرفت أنه قد وثقه إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين ، ووثقه أيضا النسائي ، ثم هو ليس متفردا برواية هذا الحديث ، بل تابعه عبد العزيز بن محمد الدراوردي عند الدارقطني : قال في سننه : حدثنا أبو بكر بن أبي داود ، ثنا محمود بن خالد ، ثنا مروان بن محمد ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، ثنا محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل رجليه ولا يبرك بروك البعير . حدثنا أبو سهل بن زياد ، ثنا إسماعيل بن إسحاق ، ثنا أبو ثابت محمد بن عبد الله ثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عبد الله بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل ركبتيه ولا يبرك بروك الجمل ، انتهى . وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام : وهو أقوى من حديث وائل بن حجر ، فإن للأول شاهدا من حديث ابن عمر صححه ابن خزيمة وذكره البخاري معلقا موقوفا ، انتهى كلام [ ص: 121 ] الحافظ . وقال الحافظ ابن سيد الناس : أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح وقال : ينبغي أن يكون حديث أبي هريرة داخلا في الحسن على رسم الترمذي لسلامة رواته عن الجرح ، انتهى . وقال ابن التركماني في الجوهر النقي : والحديث المذكور أولا يعني وليضع يديه ، ثم ركبتيه دلالة قولية ، وقد تأيد بحديث ابن عمر فيمكن ترجيحه على حديث وائل لأن دلالته فعلية على ما هو الأرجح عند الأصوليين ، انتهى ورجح القاضي أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي حديث أبي هريرة على حديث وائل من وجه آخر فقال : الهيئة التي رأى مالك وهي الهيئة التي هي مروية في حديث أبي هريرة منقولة في صلاة أهل المدينة فترجحت بذلك على غيره ، انتهى .

                                                                                                          قوله : ( وقد روي هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ، والطحاوي في شرح الآثار بلفظ : إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل . ( وعبد الله بن سعيد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره ) قال ابن معين : ليس بشيء ، وقال مرة : ليس بثقة ، وقال الفلاس : منكر الحديث متروك ، وقال يحيى بن سعيد : استبان كذبه في مجلس ، وقال الدارقطني : متروك ذاهب ، وقال أحمد مرة ليس بذاك ، ومرة قال : متروك ، وقال فيه البخاري : تركوه كذا في الميزان .

                                                                                                          اعلم أن الحنفية والشافعية وغيرهم الذين ذهبوا إلى استحباب وضع الركبتين قبل اليدين أجابوا عن حديث أبي هريرة المذكور في الباب بوجوه عديدة كلها مخدوشة .

                                                                                                          الأول : أن حديث أبي هريرة هذا منسوخ بما رواه ابن خزيمة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين وفيه أن دعوى النسخ بحديث سعد بن أبي وقاص باطلة ، فإن هذا الحديث ضعيف : قال الحازمي في كتاب الاعتبار : أما حديث سعد ففي إسناده مقال ، ولو كان محفوظا لدل على النسخ غير أن المحفوظ عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق ، انتهى قلت : وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل وهو يرويه عن أبيه وقد تفرد به عنه وهما ضعيفان لا يصلحان للاحتجاج . قال في الخلاصة في ترجمة إبراهيم بن إسماعيل : اتهمه أبو زرعة . وقال في التقريب في ترجمة إسماعيل والد إبراهيم متروك .

                                                                                                          [ ص: 122 ] الثاني : أن في حديث أبي هريرة قلبا من الراوي وكان أصله : وليضع ركبتيه قبل يديه ، ويدل عليه أول الحديث وهو قوله : فلا يبرك كما يبرك البعير ، فإن المعروف من بروك البعير هو تقديم اليدين على الرجلين قاله ابن القيم في زاد المعاد وقال : ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا ركبتا البعير في يديه لا في رجليه ، فهو إذا برك وضع ركبتيه أولا فهذا هو المنهي عنه ، قال وهو فاسد وحاصلها أن البعير إذا برك يضع يديه ، ورجلاه قائمتان وهذا هو المنهي عنه ، وأن القول بأن ركبتي البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة وأنه لو كان الأمر كما قالوا ، لقال النبي صلى الله عليه وسلم فليبرك كما يبرك البعير ; لأن أول ما يمس الأرض من البعير يداه ، انتهى .

                                                                                                          وفيه أن قوله : في حديث أبي هريرة قلب من الراوي فيه نظر ، إذ لو فتح هذا الباب لم يبق اعتماد على رواية راو مع صحته . وأما قوله : كون ركبتي البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة ، ففيه أنه قد وقع في حديث هجرة النبي صلى الله عليه وسلم قول سراقة : ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين ، رواه البخاري في صحيحه ، فهذا دليل واضح على أن ركبتي البعير تكونان في يديه . وأما قوله : لو كان الأمر كما قالوا لقال النبي صلى الله عليه وسلم فليبرك كما يبرك البعير ففيه أنه لما ثبت أن ركبتي البعير تكونان في يديه ، ومعلوم أن ركبتي الإنسان تكونان في رجليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث وليضع يديه قبل ركبتيه ، فكيف يقول في أوله فليبرك كما يبرك البعير أي فليضع ركبتيه قبل يديه .

                                                                                                          والثالث : أن حديث أبي هريرة ضعيف ، فإن الدارقطني قال : تفرد به الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن حسن ، انتهى ، والدراوردي وإن وثقه يحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهما لكن قال أحمد بن حنبل : إذا حدث من حفظه يهم ، وقال أبو زرعة : سيئ الحفظ ، فتفرد الدراوردي عن محمد بن عبد الله مورث للضعف . وقال البخاري : محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه ، وقال لا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا ، انتهى .

                                                                                                          وفيه : أن حديث أبي هريرة صحيح صالح للاحتجاج كما عرفت : وأما قول الدارقطني : تفرد به الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن الحسن فليس بصحيح ، بل قد تابعه عبد الله بن نافع عند أبي داود والنسائي . قال المنذري : وفي ما قال الدارقطني نظر ، فقد روى نحوه عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله وأخرجه أبو داود والنسائي من حديثه ، ثم تفرد الدراوردي ليس مورثا للضعف ، لأنه قد احتج به مسلم وأصحاب السنن ووثقه إمام هذا الشأن يحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهما . وأما قول البخاري : محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه ، فليس بمضر فإنه ثقة ولحديثه شاهد من حديث ابن عمر ، وصححه ابن خزيمة . قال ابن التركماني في الجوهر النقي : محمد بن عبد الله وثقه النسائي ، وقول البخاري لا يتابع على حديثه ليس بصريح في الجرح ، فلا [ ص: 123 ] يعارض توثيق النسائي ، انتهى ، وكذا لا يضر قوله لا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا ، فإن محمد بن عبد الله ليس بمدلس ، وسماعه من أبي الزناد ممكن فإنه قتل سنة 145 خمس وأربعين ومائة وهو ابن خمس وأربعين وأبو الزناد مات سنة 130 ثلاثين ومائة ، فيحمل عنعنته على السماع عند جمهور المحدثين .

                                                                                                          والرابع : أن حديث أبي هريرة مضطرب فإنه رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ، والطحاوي في شرح الآثار عن عبد الله بن سعيد ، عن جده ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ، ولا يبرك كبروك الفحل ، فهذه الرواية تخالف الرواية التي رواها الترمذي وغيره ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، والاضطراب مورث للضعف .

                                                                                                          وفيه أن رواية ابن أبي شيبة والطحاوي هذه ضعيفة جدا ، فإن مدارها على عبد الله بن سعيد وقد عرفت حاله في هذا الباب فلا اضطراب في حديث أبي هريرة ، فإن من شرط الاضطراب استواء وجوه الاختلاف ، ولا تعل الرواية الصحيحة بالرواية الضعيفة الواهية كما تقرر في مقره .

                                                                                                          والخامس : أن حديث وائل بن حجر أقوى وأثبت من حديث أبي هريرة : قال ابن تيمية في المنتقى : قال الخطابي : حديث وائل بن حجر أثبت من هذا ، انتهى . فحديث وائل هو الأولى بالعمل : وفيه أن في كون حديث وائل أثبت من حديث أبي هريرة نظرا ، فإن حديث وائل ضعيف كما عرفت ، ولو سلم أنه حسن كما قال الترمذي فلا يكون هو حسنا لذاته بل لغيره ، لتعدد طرقه الضعاف : وأما حديث أبي هريرة فهو صحيح أو حسن لذاته ، ومع هذا فله شاهد من حديث ابن عمر صححه ابن خزيمة ، وقد عرفت قول الحافظ ابن حجر وابن سيد الناس وابن التركماني والقاضي أبي بكر بن العربي في ترجيح حديث أبي هريرة على حديث وائل بن حجر ، فالقول الراجح أن حديث أبي هريرة أثبت وأقوى من حديث وائل .

                                                                                                          فإن قيل : إن كان لحديث أبي هريرة شاهد فلحديث وائل شاهدان : أحدهما ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي عن عاصم الأحول عن أنس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه ، قال الحاكم : هو على شرطهما ولا أعلم له علة ، وثانيهما ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين .

                                                                                                          يقال : هذان الحديثان لا يصلحان أن يكونا شاهدين لحديث وائل ، أما حديث أنس فلأنه قد تفرد به العلاء بن إسماعيل العطار وهو مجهول قاله البيهقي ، وقال الدارقطني : تفرد به العلاء [ ص: 124 ] بن إسماعيل عن حفص بن غياث وهو مجهول ، انتهى . وحفص بن غياث ساء حفظه في الآخر : صرح به الحافظ في مقدمة الفتح : وقال الذهبي في الميزان : قال أبو زرعة : ساء حفظه بعدما استقضى فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح ، انتهى ، وأما حديث سعد بن أبي وقاص فقد عرفت فيما سبق أنه قد تفرد به إبراهيم بن إسماعيل ، وإبراهيم هذا اتهمه أبو زرعة ، وأبوه إسماعيل متروك وأن المحفوظ عن مصعب عن أبيه نسخ التطبيق .

                                                                                                          فالحاصل : أن حديث أبي هريرة صحيح أو حسن لذاته وهو أقوى وأثبت وأرجح من حديث وائل هذا عندي والله تعالى أعلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية