الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2860 3023 - حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهطا من الأنصار إلى أبي رافع فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا، فقتله وهو نائم. [انظر: 3022 - فتح: 6 \ 155].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث البراء في قصة قتل أبي رافع بطوله، ويأتي في المغازي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 211 ] ثم ساق عن البراء أيضا أن عبد الله بن عتيك دخل عليه بيته فقتله.

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ: كان ابن عتيك الأمير، وكان أبو رافع في حصنه بالحجاز.

                                                                                                                                                                                                                              وفي لفظ: بعث ابن عتيك وعبد الله بن عتبة في ناس معهم. وهو من أفراد البخاري .

                                                                                                                                                                                                                              قال البخاري لما ذكره في المغازي يعني: بني النضير وقبل أحد. اسم أبي رافع: عبد الله - ويقال: سلام - بن أبي الحقيق كان بخيبر، ويقال: بحصن له في أرض الحجاز. قال الزهري : هو بعد كعب بن الأشرف يعني: بعد قتله. وفي "طبقات ابن سعد": كانت في رمضان سنة ست من الهجرة. وقيل: في ذي الحجة سنة خمس. وفي "الإكليل": كان بعد بدر وقبل غزوة السويق. وقال النيسابوري: كانت قبل دومة الجندل. وقال ابن حبان : بعد بدر الموعد في آخر سنة أربع.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو معشر: بعد غزوة ذات الرقاع وقبل سرية عبد الله بن رواحة، وكان أبو رافع قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب وجعل لهم الجعل لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عتيك وعبد الله بن أنيس وأبا قتادة والأسود بن خزاعي ومسعود بن سنان وأمرهم بقتله، فذهبوا إلى خيبر فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاءوا إلى منزله فصعدوا درجة له، وقدموا عبد الله بن عتيك؛ لأنه كان يرطن باليهودية واستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية. ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشاروا إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا [ ص: 212 ] عليه فما عرفوه إلا ببياضه كأنه قبطية، فعلوه بأسيافهم. قال ابن أنيس: وكنت رجلا أعشى لا أبصر فأتكئ بسيفي على بطنه حتى سمعت حسه في الفراش وعرفت أنه قضى، وجعل القوم يضربونه جميعا ثم نزلوا، وصاحت امرأته فتصايح أهل الدار، واختبأ القوم في بعض مياه خيبر، وخرج الحارث أبو زينب في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران فلم يجدوهم فرجعوا، ومكث القوم في مكانهم يومين حتى سكن الطلب ثم خرجوا إلى المدينة، وكلهم يدعي قتله، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسيافهم فنظر إليها فإذا أثر (الطعام) في ذباب سيف ابن أنيس، فقال: "هذا قتله".

                                                                                                                                                                                                                              وفي "سير ابن إسحاق ": لما انقضى أمر الخندق وأمر بني قريظة، وكان أبو رافع ممن حزب الأحزاب على رسول الله استأذنت الخزرج في قتل سلام بن أبي الحقيق فأذن لهم، فخرجوا وفيهم فلان بن سلمة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "دلائل البيهقي": قتله ابن عتيك، وذفف عليه عبد الله بن أنيس.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الإكليل" حين ذكرهما إثر بدر الكبرى من جمادى الآخرة سنة ثلاث عن ابن أنيس قال: ظهرت أنا وابن عتيك وقعد أصحابنا في الحائط، فاستأذن ابن عتيك. فقالت امرأة ابن أبي الحقيق: إن هذا لصوت ابن عتيك. فقال ابن أبي الحقيق: ثكلتك أمك، ابن عتيك

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 213 ] بيثرب أنى هو عندك هذه الساعة، فافتحي فإن الكريم لا يرد عن بابه هذه الساعة أحدا. ففتحت، فدخلت أنا وابن عتيك، فقال لابن عتيك: دونك، فشهرت عليها السيف، فأخذ ابن أبي الحقيق وسادة فاتقاني بها، فجعلت أريد أن (أضربه) فلا أستطيع فوخزته بالسيف وخزا ثم خرجت إلى ابن أنيس فقال: أقتلته؟ قلت: نعم.


                                                                                                                                                                                                                              أخرجه من حديث إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي بن كعب، عن أبيه، عن أمه بنت عبد الله بن أنيس عن أبيها.

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن عقبة: وكان معهم أيضا أسعد بن حرام حليف بني سوادة.

                                                                                                                                                                                                                              قال السهيلي : ولا نعرف أحدا ذكره غيره، قلت: ذكره الحاكم أيضا في "إكليله" عن الزهري، وعند الكلبي: عبد الله بن أنيس هو ابن أسعد بن حرام. وعند الواقدي : كانت أم ابن عتيك التي أرضعته يهودية بخيبر، فأرسل إليها يعلمها بمكانه، فخرجت إلينا بجراب مملوء تمرا كبيسا وخبزا، ثم قال لها: يا أماه، أما لو أمسينا لبتنا عندك، فأدخلينا خيبر. فقالت: وكيف تطيق خيبر وفيها أربعة آلاف مقاتل؟ ومن تريد فيها؟ قال: أبا رافع. قالت: لا تقدر عليه؛ وفيه: قالت: فادخلوا علي ليلا. فدخلوا عليها ليلا لما نام أهل خيبر في خمر الناس، وأعلمتهم أن أهل خيبر لا يغلقون عليهم أبوابهم فرقا أن يطرقهم ضيف، فلما هدأت الرجل قال: انطلقوا حتى تستفتحوا على أبي رافع، فقولوا: إنا جئنا له بهدية، فإنهم سيفتحون لكم، فلما [ ص: 214 ] انتهوا عليه فخرج سهم ابن أنيس.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر البخاري سهم عبد الله بن عتبة؛ وفيه نظر، وأراد البخاري في الترجمة بالنائم: المضطجع. وإلا فلا مطابقة بينها وبين (الحديث)، نبه عليه ابن المنير، وقال الإسماعيلي : هذا قبل يقظان نبه من (قومه).

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك؛ فالكلام عليه من وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه: كما قال المهلب جواز الاغتيال على من أعان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد أو مال أو رأي، وكان أبو رافع يعادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويؤلب الناس عليه كما مضى، وهذا من باب الحرب خدعة.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه جواز التجسس على المشركين وطلب غرتهم.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه الاغتيال بالحرب والإيهام بالقول.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه الأخذ بالشدة في الحرب والتعرض لعدد كثير من المشركين، والإلقاء إلى التهلكة باليد في سبيل الله، وأما الذي نهي عنه من ذلك فهو في الإنفاق في سبيل الله، ولئلا يخلي يده من المال فيموت جوعا وضياعا، وهي رحمة من الله ورخصة، ومن أخذ بالشدة فمباح له ذلك. وأحب إلينا ألا نأخذ بالشدة من المال لوقوع النهي فيه خاصة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 215 ] خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              فيه: الحكم بالدليل المعروف والعلامة المعروفة على الشيء لحكم هذا الرجل بالناعية - وفي نسخة: الواعية - على موت أبي رافع ويصوبه أيضا قال صاحب "العين": الواعية: الصارخة التي تندب القتيل، والوعي للصوت، والوعي: جلبة وأصوات الكلاب في الصيد إذا انجدت. وقال الداودي : الداعية: التي تدعو بالويل، وهي النائحة. وفي "الصحاح": الوغي مثل الوعي.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فما برحت حتى سمعت نعايا أبي رافع)، كذا الرواية وصوابه نعاي من غير ألف، كذا نقله النحاة أي: انع أبا رافع. جعل دلالة الأمر فيه وعلامة الجزم آخره بغير تنوين كما قالت العرب في نظير ذلك من أدركها: دراكها، ومن فطمت: فطام. وزعم سيبويه أنه يطرد هذا الباب في الأفعال الثلاثية كلها أن يقال فيها: فعال بمعنى افعل نحو حذار ومناع ونزال، كما يقول: انزل احذر وامنع.

                                                                                                                                                                                                                              قال الأصمعي: كانت العرب إذا مات فيها ميت له قدر ركب راكب فرسا وجعل يسير في الناس ويقول: نعاء فلانا أي: انعه وأظهر خبر وفاته. قال أبو نصر: وهي مبنية على الكسر. وقال الداودي : نعايا جمع ناعية، والأظهر أنه جمع: نعي، مثل: صفي صفايا.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن فارس : النعي خبر الموت، وكذلك الناعي يقال له:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 216 ] نعي. وقول الخطابي : هو مثل دراك أي: أدركوا، فمعناه: انعوا أبا رافع. إنما يصح لو قال: نعا أبا رافع. قال الأصمعي: وإنما هو يا نعاء العرب تأويلها انع العرب.

                                                                                                                                                                                                                              سادسها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (وما بي قلبة). قال الفراء: أصله من القلاب وهو داء يصيب الإبل. وزاد الأصمعي: تموت من يومها به، فقيل ذلك لكل سالم ليس به علة. وقال ابن الأعرابي : معناه: ليست به علة يقلب لها فينظر إليه، وأصل ذلك في الدواب.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر المفضل بن سلمة في كتاب "الفاخر" أن الأصمعي قال: ما به داء وهو من القلاب داء يأخذ الإبل في رءوسها فيقلبها إلى فوق. وقال الفراء: ما به علة يخشى عليه منها، وهو من قولهم: قلب الرجل إذا أصابه وجع في قلبه، وليس يكاد يقلب منه. وقال الطائي: ما به شيء يقلقله فيقلب منه على فراشه. وقال النحاس في "زياداته على الفاخر": حكى عبد الله بن مسلم أن بعضهم يقول في هذا: أي ما به حول، ثم استعير من هذا الأصل لكل سالم باسمه ليست به آفة. وقال يحيى بن الفضل: إذا وصفوا الرجل بالصحة قالوا: ما به قلبة، ولو كان كما قالوا لكان بالضعف والسقم أولى منه بالقوة، والصحيح قول الفراء.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فوثئت رجلي)، هو بثاء مثلثة، ذكرها ثعلب في باب المهموز

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 217 ] من الفعل؛ يقال: وثئت يده، فهي موثوءة، ووثأتها أنا.

                                                                                                                                                                                                                              وأما ابن فارس فقال: وقد يهمز.

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي : والواو مضمومة على بناء الفعل لما لم يسم فاعله.

                                                                                                                                                                                                                              قال القزاز : وهو وصم يصيب العظم من غير أن يبلغ الكسر.

                                                                                                                                                                                                                              و (الرهط): تقدم ذكر الاختلاف فيه.

                                                                                                                                                                                                                              وبعثه - صلى الله عليه وسلم - إياهم لقتله دليل على أن من بلغته الدعوة لا تقدم له دعوة عند قتاله، وهذه رواية العراقيين عن مالك، وفي "المدونة" عن مالك روايتان، قال ابن القاسم : لا يبيتون حتى يدعوا غزوناهم أو أقبلوا إلينا.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: الاحتيال في قتل المشرك.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية