الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت ما وصفنا من وجوب الفاتحة واستحباب السورة فلا يجوز أن يقرأ بالفارسية ولا بلغة غير العربية وأجازه أبو حنيفة إن أحسن العربية أو لا يحسنها ، وأجازه أبو يوسف ومحمد ، لمن لا يحسن العربية دون من يحسنها

                                                                                                                                            واستدلوا بقوله تعالى : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [ الأعلى : 192 ] وبقوله : وإنه لفي زبر الأولين [ الشعراء : 196 ] فأخبر أنه كان في صحفهم وزبرهم ، ومعلوم أنها لم تكن بالعربية وإنما كانت بلغتهم فبعضها عبراني ، وبعضها سرياني وقال تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم [ الأنعام 19 ] فأخبر أنه إنذار للكافة من العرب ، والعجم ، ولا يمكن إنذار العجم إلا بلسانهم ، ولا يكون نذير إليهم إلا بلغتهم ، فدل على جواز قراءته بغير العربية : ليصير نذيرا للكافة وروي أن عبد الله بن مسعود كان يعلم صبيا : إن شجرة الزقوم طعام الأثيم [ الدخان : 43 ] . فكان الصبي يقول : طعام اليتيم فقال له : قل طعام الفاجر ، لأن معناهما واحد ، فدل على أن المقصود هو المعنى . قالوا : ولأن الذكر المستحق في الصلاة قرآن ، وغير قرآن ، فلما جاز أن يأتي بالأذكار التي ليست بقرآن بغير العربية جاز أن يأتي بالقرآن بغير العربية ، ولأن العجز عن القرآن يوجب الانتقال إلى مثله [ فكان معنى القرآن أقرب إليه من التسبيح والتهليل ] فكان أولى أن لا يكون بدلا منه

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله [ الإسراء : 88 ] . وهذا القارئ بغير العربية لا يخلو حاله من ثلاثة أحوال ، إما أن يكون هو القرآن بعينه ، وهذا محال ، أو يكون مثل القرآن ، وهذا رد على الله تعالى [ ص: 114 ] وعناد له ، أو يكون ليس بقرآن ، ولا مثله فمن قال لم تجز صلاته : لأنها إنما تجزئ بالقرآن لا بغيره وقال تعالى : بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] . فنفى عنه غير العربية ، وقال تعالى : إنا جعلناه قرآنا عربيا [ الزخرف : 3 ] . وأبو حنيفة يجعله قرآنا فارسيا ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أحبوا العرب لثلاث : لأني عربي ، ولأن القرآن عربي ، ولأن لسان أهل الجنة عربي

                                                                                                                                            وروى عبد الله بن أبي أوفى قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزيني . قال : قل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله . قال : يا رسول الله ، هذا لله تعالى فما لي قال : قل : اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني ، فلما قام قال : هكذا بيده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد ملأ يديه من الخير فموضع الدليل [ منه ] : أنه لو جاز العدول من القرآن إلى معناه لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به ولم يعدل به إلى التحميد ، والتكبير ، ولأن كل كلام لم يكن في جنسه إعجاز لم يجز أن ينوب مناب القرآن ، كالشعر ، ولأنه لو أبدل ألفاظ القرآن بما في معناه من الكلام العربي لم يجز ، فإذا أبدله بالكلام العجمي أولى أن لا يجزئه

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله سبحانه : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [ الأعلى : 18 ، 19 ] . وإنه لفي زبر الأولين [ الشعراء : 196 ] . فهو أنه ليس براجع إلى القرآن ، لأن القرآن لم ينزل إلا على محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ الأنعام : 19 ] . فالجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وإن كان إنذارا للكافة ، فالتحقيق به إنما توجه إلى العرب الذين هم أهل الفصاحة باللسان دون العجم ، لأنهم إذا عجزوا عن لسانهم كانت العجم عنه أعجز فصار إنذارا للعرب بعجزهم ، وإنذارا للعجم بعجز من هو أقدر عليه منهم

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن الإنذار به يكون بالنظر فيه وتأمل إعجازه ، والعجم إذا أرادوا ذلك لتوصلوا إليه بمعاطاة العربية ليتوصلوا بمعرفتها ، فإن قيل فعلى هذا الجواب يلزم جميع العجم أن يتعلموا العربية ، لأنها إنذار لهم قلنا : إنما كان يلزمهم أن لو لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم معجزة غيره ، وأما وله غير من المعجزات التي يستدلون بها على نبوته ، وصدق رسالته ، وإن كان عجما يفقهون العربية فلا يلزمهم

                                                                                                                                            [ ص: 115 ] وأما استدلالهم بحديث ابن مسعود فكان مقصوده التنبيه على المعنى ليفهم اللفظ على صيغته : لأننا أجمعنا أن إبداله باللفظ العربي لا يجوز

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بجواز الذكر بالفارسية فقد تقدم الفرق بينهما ، إذ ليس في سائر الأذكار إعجاز يزول بنقله إلى غير العربية

                                                                                                                                            وأما استدلالهم أن معنى القرآن أقرب إليه وأولى من التسبيح ، والتكبير ففيه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يقلب عليهم فيقال لهم التسبيح بالكلام العربي أقرب إلى القرآن من الكلام العجمي

                                                                                                                                            والثاني : يقال نحن لم نجعل التسبيح بدلا من القرآن ، وإنما أسقطنا به فرض القراءة في الصلاة للعجز عنها

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية