الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 38 ] ثم من تمسك ببعض شعب الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ولم يوافقهم على أصل بدعتهم ولا دعا إلى مذهبهم كثير من المتقدمين ، وهم جمهور من روى عنه أصحاب الصحيح ممن ينسب إلى بعض هؤلاء المخطئين . فقام يرد هذه البدعة بقايا الصحابة العالمين ، كابن عمر وابن عباس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الغر الميامين .

ثم لما فرغ الشيطان من المؤمنين ببدعتين رفعا وخفضا ، ومن الدين ببدعتين إبراما ونقضا ، شرع في رب العالمين ، فحدثت بدعتا الجهمية في أواخر عصر التابعين : هؤلاء ينفون عنه ما جاءت به الرسل من الصفات ، كأنه عندهم من الأمور المعدومات ، مضاهاة لضلال الصابئين . ثم كثير منهم أو أكثرهم إن اضطر إلى إثباته جعله لآخر شاملا لمخلوقاته شمول الكل لأجزائه شائعا ، حتى قد خصهم بالبحر وأمواجه في مصنوعاته مشاع الجنس المطلق في أفراده ، وجعلوه الوجود المطلق الذي لا يوصف بتغييره في معينين ، وبعضهم يجعله ساريا في المحدثات بحيث لا يبقى له عندهم حقيقة خارجية من الأرض والسماوات . تعالى الله عن افتراء الظالمين .

فشاركوا النصارى في الحلول والاتحاد ، وزادوا عليهم بعموم الحلول والاتحاد في الموجودين . ثم ضربوا للكتب الإلهية أنواع التحريف والتبديل وأصناف المجاز والتأويل ، ولا أبقوا العقول كما فطرت عليه من المعقولات وما أتى إليها من المسموعات ، تارة بدعوى النظر الثاقب للنظار ، وتارة بدعوى الوجد الصادق للعابدين . [ ص: 39 ]

ثم آل الأمر بكثير منهم إلى أن عمم هذا فيما جاءت به الرسل من الوعد والوعيد ، وما وصفته من النعيم والعذاب في داري الكفار والمؤمنين ، فسلبوا داري القرار ما عرف لهما من الصفات ونفوهما ، إذ أثبتوهما كإثباتهم إله المؤمنين ، فحملوا مثل ذلك في المحارم والعادات ، تارة ينفون عن الأفعال أحكامها الشرعية ، وتارة يثبتون ذلك في حق العموم دون المتميزين ، وعصامهم في جميع ذلك نوع تعطيل يسمونه بالمعقول ، ونوع تحريف يسمونه بالتأويل ويزخرفونه بالتزيين .

وهؤلاء الممثلة يمثلون صفاته بصفات المخلوقات ، ويجعلونه من جنس المصنوعات وصنف الآدميين ، حتى وصفه بعضهم باللحم والدم والعظام -تعالى الله عن ذلك- مضاهاة لكثير من اليهود في تمثيلهم لربهم بالمخلوق ، حتى عبدوا العجل وكانوا أتباع الدجال اللعين ، وإن كان كثير من اليهود أو أكثرهم معطلة جهمية ذات تحريف يسمونه التأويل ، يفرون به -زعموا- من تحيز ذي القوة المتين ، فإنه قال - صلى الله عليه وسلم - : "لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" ، قالوا : يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال : "فمن" . وجب بمقتضى هذا الخبر البين أن يكون في أمتنا ما كان في أهل الكتابين قبلنا . هذا ، ثم المهتدي منهم قبل المبعث ضل بعدم اتباع نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، فلذلك افترقت أمتنا زيادة عليهم ثلاثة وسبعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية