الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 33 ] قال : ( وإذا وهب الأب لابنه الصغير هبة ملكها الابن بالعقد ) ; لأنه في قبض الأب فينوب عن قبض الهبة ، ولا فرق بين ما إذا كان في يده أو في يد مودعه ; لأن يده كيده ، بخلاف ما إذا كان مرهونا أو مغصوبا أو مبيعا بيعا فاسدا ; لأنه في يد غيره أو في ملك غيره ، والصدقة في هذا مثل الهبة ، وكذا إذا وهبت له أمه وهو في عيالها والأب ميت ولا وصي له ، وكذلك كل من يعوله . [ ص: 34 ] ( وإن وهب له أجنبي هبة تمت بقبض الأب ) ; لأنه يملك عليه الدائر بين النافع والضائر فأولى أن يملك المنافع .

قال ( وإذا وهب لليتيم هبة فقبضها له وليه وهو وصي الأب أو جد اليتيم أو وصيه جاز ) ; لأن لهؤلاء ولاية عليه لقيامهم مقام الأب ( وإن كان في حجر أمه فقبضها له جائز ) ; لأن لها الولاية فيما يرجع إلى حفظه وحفظ ماله . وهذا من بابه ; لأنه لا يبقى إلا بالمال فلا بد من ولاية التحصيل ( وكذا إذا كان في حجر أجنبي يربيه ) ; لأن له عليه يدا معتبرة . ألا ترى أنه لا يتمكن أجنبي آخر أن ينزعه من يده فيملك ما يتمحض نفعا في حقه ( وإن قبض الصبي الهبة بنفسه جاز ) معناه إذا كان عاقلا ; لأنه نافع في حقه وهو من أهله . وفيما وهب للصغيرة يجوز [ ص: 35 ] قبض زوجها لها بعد الزفاف لتفويض الأب أمورها إليه دلالة ، بخلاف ما قبل الزفاف ويملكه مع حضرة الأب ، بخلاف الأم وكل من يعولها غيرها حيث لا يملكونه إلا بعد موت الأب أو غيبته غيبة منقطعة في الصحيح ; لأن تصرف هؤلاء للضرورة لا بتفويض الأب ، ومع حضوره لا ضرورة .

التالي السابق


( قوله : وكذلك كل من يعوله ) أي قبض الهبة ; لأجل اليتيم يصح من كل من يعوله نحو الأخ والعم والأجنبي ، كذا في الشروح . قال صاحب النهاية ومن يحذو حذوه بعد هذا البيان : أطلق في الكتاب جواز قبض هؤلاء ، ولكن ذكر في الإيضاح ومختصر الكرخي أن ولاية القبض لهؤلاء إذا لم يوجد واحد من الأربعة وهم الأب ووصيه والجد أبو الأب بعد الأب ووصيه ، فأما مع وجود واحد منهم فلا ، سواء كان الصبي في عيال القابض [ ص: 34 ] أو لم يكن ، وسواء كان ذا رحم محرم منه أو أجنبيا . لأنه ليس لهؤلاء ولاية التصرف في ماله . فقيام ولاية من يملك التصرف في المال يمنع ثبوت حق القبض له ، فإذا لم يبق واحد منهم جاز قبض من كان الصبي في عياله لثبوت نوع ولاية له حينئذ ، ألا ترى أنه يؤدبه ويسلمه في الصنائع ، فقيام هذا القدر من الولاية يطلق حق قبض الهبة ; لكونه من باب المنفعة . ا هـ .

وقال صاحب العناية بعد نقل ذلك بقليل : وأرى أنه لم يطلق ، ولكنه اقتصر في التقييد وذلك ; لأنه قال : وكذلك كل من يعوله وهو معطوف على قوله : وكذلك إذا وهبت له أمه وهو مقيد بقوله والأب ميت ولا وصي له فيكون ذلك في المعطوف أيضا ، لكنه اقتصر على ذكر الجد ووصيه للعلم بأن الجد الصحيح مثل الأب في أكثر الأحكام ووصيه كوصي الأب . ا هـ كلامه .

أقول : ليس هذا بتوجيه صحيح ، إذا قد تقرر في كتب العربية أن القيد إذا كان مقدما على المعطوف عليه فالظاهر تقييد المعطوف به كقولنا يوم الجمعة سرت وضربت زيدا وليس ذلك بقطعي ولكنه السابق إلى الفهم في الخطابيات ، وأما إذا كان مؤخرا عن المعطوف عليه فلا يفهم منه تقييد المعطوف به أيضا أصلا ، وقيد المعطوف عليه فيما نحن فيه مؤخر فلا يدل على تقييد المعطوف به في شيء فيضمحل [ ص: 35 ] ما توهمه صاحب العناية .

( قوله : ويملكه مع حضرة الأب بخلاف الأم ، وكل من يعولها غيرها حيث لا يملكونه إلا بعد موت الأب أو غيبته غيبة منقطعة في الصحيح ) قال صاحب النهاية : قوله : في الصحيح متعلق بقوله ويملكه مع حضرة الأب : أي ويملك الزوج قبض الهبة لأجل امرأته الصغيرة مع حضرة أبيها في الصحيح ، وكان هذا احترازا عما ذكر في الإيضاح بقوله وتأويل هذه المسألة أن قبض الزوج إنما يجوز إذا لم يكن الأب حيا ، وقال : إنما قلت هذا ; لأن في قوله بخلاف الأم وكل من يعولها غيرها حيث لا يملكونه إلا بعد موت الأب أو غيبته غيبة منقطعة ليست رواية أخرى حتى يقع قوله : في الصحيح احترازا عنها . انتهى كلامه . واقتفى أثره صاحب العناية ومعراج الدراية . أقول : فيه نظر ; لأن شيخ الإسلام خواهر زاده قال في مبسوطه : فمن مشايخنا من سوى بين الزوج وبين الأجنبي والأب والجد والأخ . وقالوا : يجوز قبض هؤلاء عن الصغير إذا كان في عيالهم وإن كان الأب حاضرا كما في الزوج . ومنهم من فرق وقال بأن قبض الزوج يجوز على امرأته الصغيرة إذا كانت في عياله حال حضرة الأب وحال غيبته ، وفي الأجنبي يجوز قبضه للصغير حال عدم قريب آخر للصغير .

وفيما ذكر من الأقارب حق القبض حال غيبة الأب إذا كان الصغير في عيالهم فلا يكون لهم القبض عن الصغير حال حضرة الأب ، إلى هنا كلامه فظهر منه أن في قوله بخلاف الأم وكل من يعوله غيرها حيث لا يملكونه إلا بعد موت الأب أو غيبته غيبة منقطعة قولا آخر يخالف القول المذكور فيصح أن يقع قوله : في الصحيح احترازا عنه كما لا يخفى . وأنا أتعجب من صاحب العناية أنه بعد أن رأى ما صرح به في مبسوط شيخ الإسلام من اختلاف المشايخ في هذه المسألة مذكورا في غاية البيان مع تفصيلات أخر بطريق النقل عن [ ص: 36 ] مبسوط شيخ الإسلام ذلك الهمام كيف تبع رأي صاحب النهاية في جعل قول المصنف في الصحيح متعلقا بقوله ويملكه مع حضرة الأب مع كونه بعيدا من حيث اللفظ والمعنى ، أما بعده من حيث اللفظ فظاهر ; لأنه يقع حينئذ فصل كثير بين المتعلق والمتعلق به من غير ضرورة تدعو إليه ، وأما بعده من حيث المعنى فلأنه لو كان مراد المصنف بقوله في الصحيح هو الاحتراز عما ذكر في الإيضاح من أن قبض الزوج إنما يجوز إذا لم يكن الأب حيا لقال ويملك مع حياة الأب بدل قوله يملك مع حضرة الأب ; لأن الحضرة إنما تقابل الغيبة دون عدم الحياة تأمل تقف .




الخدمات العلمية