الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب لا وصية لوارث

                                                                                                                                                                                                        2596 حدثنا محمد بن يوسف عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع [ ص: 438 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 438 ] قوله : ( باب لا وصية لوارث ) هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع كأنه لم يثبت على شرط البخاري فترجم به كعادته ، واستغنى بما يعطى حكمه . وقد أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث أبي أمامة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته في حجة الوداع : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وفي إسناده إسماعيل بن عياش ، وقد قوى حديثه عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري ، وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة ، وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي وقال الترمذي : حديث حسن .

                                                                                                                                                                                                        وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي ، وعن أنس عند ابن ماجه ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الدارقطني وعن جابر عند الدارقطني أيضا وقال : الصواب إرساله ، وعن علي عند ابن أبي شيبة ، ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال ، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا ، بل جنح الشافعي في " الأم " إلى أن هذا المتن متواتر فقال : وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح " لا وصية لوارث " ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم ، فكان نقل كافة عن كافة ، فهو أقوى من نقل واحد .

                                                                                                                                                                                                        وقد نازع الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواترا وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة لكن الحجة في هذا الإجماع على مقتضاه كما صرح به الشافعي وغيره ، والمراد بعدم صحة وصية الوارث عدم اللزوم ، لأن الأكثر على أنها موقوفة على إجازة الورثة كما سيأتي بيانه ، وروى الدارقطني من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة كما سيأتي بيانه ، ورجاله ثقات ، إلا أنه معلول : فقد قيل إن عطاء هو الخراساني والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        وكأن البخاري أشار إلى ذلك فترجم بالحديث ، وأخرج من طريق عطاء وهو ابن أبي رباح عن ابن عباس حديث الباب وهو موقوف لفظا ، إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع بهذا التقدير ، ووجه دلالته للترجمة من جهة أن نسخ الوصية للوالدين وإثبات الميراث لهما بدلا منها يشعر بأنه لا يجمع لهما بين الميراث والوصية ، وإذا كان كذلك كان من دونهما أولى بأن لا يجمع ذلك له ، وقد أخرجه ابن جرير من طريق مجاهد بن جبر عن ابن عباس بلفظ " وكانت الوصية للوالدين والأقربين إلخ " فظهرت المناسبة بهذه الزيادة ; وقد وافق محمد بن يوسف - وهو الفريابي في روايته إياه عن ورقاء - عيسى بن ميمون كما أخرجه ابن جرير ، وخالف ورقاء شبل عن ابن أبي نجيح فجعل مجاهدا [ ص: 439 ] موضع عطاء أخرجه ابن جرير أيضا ، ويحتمل أنه كان عند ابن أبي نجيح على الوجهين والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وجعل للمرأة الثمن والربع ) أي في حالين وكذلك للزوج ، قال جمهور العلماء : كانت هذه الوصية في أول الإسلام واجبة لوالدي الميت وأقربائه على ما يراه من المساواة والتفضيل ، ثم نسخ ذلك بآية الفرائض ، وقيل كانت للوالدين والأقربين دون الأولاد فإنهم كانوا يرثون ما يبقى بعد الوصية ، وأغرب ابن شريح فقال كانوا مكلفين بالوصية للوالدين والأقربين بمقدار الفريضة التي في علم الله قبل أن ينزلها ; واشتد إنكار إمام الحرمين عليه في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        وقيل : إن الآية مخصوصة لأن الأقربين أعم من أن يكونوا وراثا ، وكانت الوصية واجبة لجميعهم فخص منها من ليس بوارث بآية الفرائض وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا وصية لوارث " وبقي حق من لا يرث من الأقربين من الوصية على حاله قاله طاوس وغيره ، وقد تقدمت الإشارة إليه قبل . واختلف في تعيين ناسخ آية الوصية للوالدين والأقربين فقيل : آية الفرائض وقيل الحديث المذكور ، وقيل دل الإجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله . واستدل بحديث " لا وصية لوارث " بأنه لا تصح الوصية للوارث أصلا كما تقدم ، وعلى تقدير نفاذها من الثلث لا تصح الوصية له ولا لغيره بما زاد على الثلث ولو أجازت الورثة ، وبه قال المزني وداود ، وقواه السبكي واحتج له بحديث عمران بن حصين في الذي أعتق ستة أعبد فإن فيه عند مسلم " فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا شديدا " وفسر القول الشديد في رواية أخرى بأنه قال : " لو علمت ذلك ما صليت عليه " ولم ينقل أنه راجع الورثة فدل على منعه مطلقا ، وبقوله في حديث سعد بن أبي وقاص : " وكان بعد ذلك الثلث جائزا " فإن مفهومه أن الزائد على الثلث ليس بجائز ، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - منع سعدا من الوصية بالشطر ولم يستثن صورة الإجازة واحتج من أجازه بالزيادة المتقدمة وهي قوله : " إلا أن يشاء الورثة " فإن صحت هذه الزيادة فهي حجة واضحة .

                                                                                                                                                                                                        واحتجوا من جهة المعنى بأن المنع إنما كان في الأصل لحق الورثة ، فإذا أجازوه لم يمتنع واختلفوا بعد ذلك في وقت الإجازة فالجمهور على أنهم إن أجازوا في حياة الموصي كان لهم الرجوع متى شاءوا ، وإن أجازوا بعده نفذ ، وفصل المالكية في الحياة بين مرض الموت وغيره فألحقوا مرض الموت بما بعده ، واستثنى بعضهم ما إذا كان المجيز في عائلة الموصي وخشي من امتناعه انقطاع معروفه عنه لو عاش فإن لمثل هذا الرجوع ، وقال الزهري وربيعة : ليس لهم الرجوع مطلقا . واتفقوا على اعتبار كون الموصى له وارثا بيوم الموت حتى لو أوصى لأخيه الوارث حيث لا يكون له ابن يحجب الأخ المذكور فولد له ابن قبل موته يحجب الأخ فالوصية للأخ المذكور صحيحة ، ولو أوصى لأخيه وله ابن فمات الابن قبل موت الموصي فهي وصية لوارث ، واستدل به على منع وصية من لا وارث له سوى بيت المال لأنه ينتقل إرثا للمسلمين ، والوصية للوارث باطلة ، وهو وجه ضعيف جدا حكاه القاضي حسين ويلزم قائله أن لا يجيز الوصية للذمي أو يقيد ما أطلق ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية