الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ومنها ، أن المضاف لا تحصل به الطهارة ، وهو على ثلاثة أضرب : أحدها ; ما لا تحصل به الطهارة رواية واحدة ، وهو على ثلاثة أنواع : أحدها ، ما اعتصر من الطاهرات كماء الورد ، وماء القرنفل ، وما ينزل من عروق الشجر إذا قطعت رطبة .

                                                                                                                                            الثاني ، ما خالطه طاهر فغير اسمه ، وغلب على أجزائه ، حتى صار صبغا ، أو حبرا ، أو خلا ، أو مرقا ، ونحو ذلك . الثالث ، ما طبخ فيه طاهر فتغير به ، كماء الباقلا المغلي .

                                                                                                                                            فجميع هذه الأنواع لا يجوز الوضوء بها ، ولا الغسل ، لا نعلم فيه خلافا ، إلا ما حكي عن ابن أبي ليلى والأصم في المياه المعتصرة ، أنها طهور يرتفع بها الحدث ، ويزال بها النجس .

                                                                                                                                            ولأصحاب الشافعي وجه في ماء الباقلا المغلي ، وسائر من بلغنا قوله من أهل العلم على خلافهم . قال أبو بكر بن المنذر : أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم أن الوضوء غير جائز بماء الورد ، وماء الشجر ، وماء العصفر ، ولا تجوز الطهارة إلا بماء مطلق ، يقع عليه اسم الماء ; ولأن الطهارة إنما تجوز بالماء ، وهذا لا يقع عليه اسم الماء بإطلاقه

                                                                                                                                            الضرب الثاني ما خالطه طاهر يمكن التحرز منه ، فغير إحدى صفاته ، طعمه ، أو لونه ، أو ريحه ، كماء الباقلا ، وماء الحمص ، وماء الزعفران . واختلف أهل العلم في الوضوء به ، واختلفت الرواية عن إمامنا ، رحمه الله ، في ذلك ; فروي عنه : لا تحصل الطهارة به . وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وقال القاضي أبو يعلى وهي أصح ، وهي [ ص: 25 ] المنصورة عند أصحابنا في الخلاف . ونقل عن أحمد جماعة من أصحابه ، منهم أبو الحارث ، والميموني ، وإسحاق بن منصور ، جواز الوضوء به .

                                                                                                                                            وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ; لأن الله تعالى قال : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وهذا عام في كل ماء ; لأنه نكرة في سياق النفي ، والنكرة في سياق النفي تعم ، فلا يجوز التيمم مع وجوده ، وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر : { التراب كافيك ما لم تجد الماء } .

                                                                                                                                            وهذا واجد للماء ; ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون ، وغالب أسقيتهم الأدم ، والغالب أنها تغير الماء ، فلم ينقل عنهم تيمم مع وجود شيء من تلك المياه ; ولأنه طهور خالطه طاهر لم يسلبه اسم الماء ، ولا رقته ، ولا جريانه ، فأشبه المتغير بالدهن .

                                                                                                                                            ووجه الأولى : أنه ماء تغير بمخالطة ما ليس بطهور يمكن الاحتراز منه ، فلم يجز الوضوء به ، كماء الباقلا المغلي ; ولأنه زال عن إطلاقه ، فأشبه المغلي . إذا ثبت هذا فإن أصحابنا لم يفرقوا بين المذرور في الماء مما يخلط بالماء كالزعفران والعصفر والأشنان ونحوه ، وبين الحبوب من الباقلا والحمص ، والثمر كالتمر والزبيب والورق وأشباه ذلك .

                                                                                                                                            وقال أصحاب الشافعي : ما كان مذرورا منع إذا غير الماء ، وما عداه لا يمنع إلا أن ينحل في الماء ، وإن غيره من غير انحلال لم يسلب طهوريته ; لأنه تغير مجاورة ، أشبه تغيير الكافور .

                                                                                                                                            ووافقهم أصحابنا في الخشب والعيدان ، وخالفوهم في سائر ما ذكرنا ; لأن تغير الماء به إنما كان لانفصال أجزاء منه إلى الماء وانحلالها فيه ، فوجب أن يمنع كما لو طبخ فيه ; ولأنه ماء تغير بمخالطة طاهر يمكن صونه عنه ، أشبه ما لو أغلي فيه .

                                                                                                                                            الضرب الثالث من المضاف ما يجوز الوضوء به رواية واحدة ، وهو أربعة أنواع :

                                                                                                                                            أحدها : ما أضيف إلى محله ومقره ، كماء النهر والبئر وأشباههما ; فهذا لا ينفك منه ماء وهي إضافة إلى غير مخالط . وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم .

                                                                                                                                            الثاني : ما لا يمكن التحرز منه ، كالطحلب والخز وسائر ما ينبت في الماء ، وكذلك ورق الشجر الذي يسقط في الماء ، أو تحمله الريح فتلقيه فيه ، وما تجذبه السيول من العيدان والتبن ونحوه ، فتلقيه في الماء ، وما هو في قرار الماء كالكبريت والقار وغيرهما ، إذا جرى عليه الماء فتغير به ، أو كان في الأرض التي يقف فيها الماء .

                                                                                                                                            فهذا كله يعفى عنه ; لأنه يشق التحرز منه ، فإن أخذ شيء من ذلك وألقي في الماء وغيره كان حكمه حكم ما أمكن التحرز منه ، من الزعفران ونحوه ; لأن الاحتراز منه ممكن .

                                                                                                                                            الثالث : ما يوافق الماء في صفتيه الطهارة ، والطهورية ، كالتراب إذا غير الماء لا يمنع الطهورية ; لأنه طاهر مطهر كالماء ، فإن ثخن بحيث لا يجري على الأعضاء لم تجز الطهارة به ; لأنه طين وليس بماء ، ولا فرق في التراب بين وقوعه في الماء عن قصد أو غير قصد .

                                                                                                                                            وكذلك الملح الذي أصله الماء كالبحري ، والملح الذي ينعقد من الماء الذي يرسل على السبخة فيصير ملحا ، فلا يسلب الطهورية ; لأن أصله الماء ، فهو كالجليد والثلج ، وإن كان معدنا ليس أصله الماء فهو كالزعفران وغيره .

                                                                                                                                            الرابع : ما يتغير به الماء بمجاورته من غير مخالطة ، كالدهن على اختلاف أنواعه ، والطاهرات الصلبة كالعود والكافور والعنبر ، إذا لم يهلك في الماء ، ولم يمع فيه ، لا يخرج به عن إطلاقه ; لأنه تغيير مجاورة ، أشبه ما لو تروح الماء بريح شيء على جانبه .

                                                                                                                                            ولا نعلم في هذه الأنواع [ ص: 26 ] خلافا . وفي معنى المتغير بالدهن ما تغير بالقطران والزفت والشمع ; لأن في ذلك دهنية يتغير بها الماء تغير مجاورة ، فلا يمنع كالدهن .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية