الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
تنبيهات الأول - قد تجتمع فواصل في موضع واحد، ويخالف بينها، كأوائل النحل. فإنه تعالى تبدأ بذكر الأفلاك، فقال: خلق السماوات والأرض بالحق [ ص: 33 ] ثم ذكر خلق الإنسان من نطفة ، ثم ذكر خلق " الأنعام "، ثم عجائب النبات، فقال: هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون الآية. فجعل مقطع هذه الآية التفكر، لأنه استدلال بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر. ولما كان هنا مظنة سؤال، وهو أنه: لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع الفصول وحركات الشمس والقمر، وكان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال - كان مجال التفكر والنظر والتأمل باقيا، فأجاب عنه تعالى من وجهين: أحدهما - أن تغييرات العالم السفلي مربوطة بأحوال حركات الأفلاك، فتلك الحركات كيف حصلت، فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل، وإن كان من الخالق الحكيم فذلك إقرار بوجود الإله تعالى، وهو المراد بقوله: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون . فجعل مقطع هذه الآية العقل، وكأنه قيل: إن كنت عاقلا فاعلم أن التسلسل باطل، فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها غير متحرك، وهو الإله القادر المختار. والثاني: أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة - واحدة، ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها في غاية الحمرة والآخر في غاية السواد، فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار، فعلمنا أن المؤثر قادر مختار. وهذا هو المراد من قوله: وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون . كأنه قال: اذكر ما يرسخ في عقلك أن الواجب بالطبع والذات لا يختلف تأثيره، فإذا نظرت حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر ليس هو الطبائع، بل الفاعل المختار، فلهذا جعل مقطع الآية التذكر. ومن ذلك قوله تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم [ ص: 34 ] الآيات. فإن الأولى ختمت بقوله: لعلكم تعقلون والثانية بقوله: لعلكم تذكرون ، والثالثة بقوله: لعلكم تتقون لأن الوصايا التي في الآية الأولى إنما يحمل على تركها عدم العقل الغالب على الهوى، لأن الإشراك بالله لعدم استعمال العقل الدال على توحيده وعظمته. وكذلك عقوق الوالدين لا يقتضيه العقل لسبق إحسانها إلى الولد بكل طريق. وكذلك قتل الأولاد من الإملاق مع وجود الرازق الحي الكريم، وكذلك إتيان الفواحش لا يقتضيه عقل. وكذلك قتل النفس لغيظ أو غضب في القاتل، فحسن بعد ذلك يعقلون. وأما الثانية، فلتعلقها بالحقوق المالية والقولية، فإن من علم أن له أيتاما يخلفهم من بعده لا يليق به أن يعامل أيتام غيره إلا بما يجب أن يعامل به أيتامه. ومن يكيل أو يزن أو يشهد لغيره لو كان ذلك الأمر له لم يحب أن يكون فيه خيانة ولا بخس. وكذا من وعد له وعد لم يحب أن يخلف، ومن أحب ذلك عامل الناس به ليعاملوه بمثله، فترك ذلك إنما يكون لغفلته عن تدبر ذلك وتأمله. فلذلك ناسب الختم بقوله: لعلكم تذكرون. وأما الثالثة فلأن ترك اتباع شرائع الله الدينية يؤدي إلى غضبه وإلى عقابه فحسن " لعلكم تتقون " ، أي عقاب الله بسببه. ومن ذلك قوله تعالى في الأنعام أيضا: وهو الذي جعل لكم النجوم ... الآيات، فإنه ختم الأولى بقوله: لقوم يعلمون ، والثانية بقوله: لقوم يفقهون ، والثالثة بقوله: لقوم يؤمنون . وذلك لأن حساب النجوم والاهتداء بها يختص بالعلماء من ذلك، فناسب ختمه بـ يعلمون. وإنشاء الخلائق من نفس واحدة ونقلهم من صلب إلى رحم ثم إلى الدنيا ثم إلى حياة وموت، والنظر في ذلك والفكر فيه أدق، فناسب ختمه بـ يفقهون، لأن الفقه فهم الأشياء الدقيقة. ولما ذكر ما أنعم به على عباده من سعة الأقوات والأرزاق والثمار وأنواع ذلك ناسب ختمه بالإيمان الداعي إلى شكره تعالى على نعمه. [ ص: 35 ] ومن ذلك قوله تعالى: وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون . حيث ختم الأولى بـ "تؤمنون" والثانية بـ "تذكرون". ووجهه أن مخالفة القرآن لنظم الشعر ظاهرة وواضحة لا تخفى على أحد، فقول من قال شعر عناد وكفر محض، فناسب ختمه بقوله: قليلا ما تؤمنون . وأما مخالفته لنظم الكهان وألفاظ السجع فتحتاج إلى تدبر وتذكر، لأن كلا منهما نثر، فليست مخالفته لهما في وضوحها لكل أحد كمخالفة الشعر، وإنما تظهر بتدبر ما في القرآن من الفصاحة والبلاغة والبدائع والمعاني الأنيقة فحسن ختمه بقوله: قليلا ما تذكرون . ومن بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدث عنه واحد لنكتة لطيفة، كقوله تعالى في سورة إبراهيم: وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار . ثم قال في سورة النحل: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم . قال ابن المنير: كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها، فحصل لك عند أخذها وصفان: كونك ظلوما، وكونك كفارا، يعني لعدم وفائك بشكرها، ولي عند إعطائها وصفان، وهما أني غفور رحيم، أقابل ظلمك بغفراني، وكفرك برحمتي، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوقير، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء. وقال غيره: إنما خص سورة إبراهيم بوصف المنعم عليه، وسورة النحل بوصف النعم، لأنه في سورة إبراهيم في مساق وصف الإنسان. وفي سورة النحل في مساق صفات الله وإثبات ألوهيته. ونظيره قوله في الجاثية: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون . وفي فصلت ختم بقوله: وما ربك بظلام للعبيد . ونكتة ذلك أن قبل الآية الأولى: قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ، فناسب الختام بفاصلة البعث، لأن [ ص: 36 ] قبله وصفهم بإنكاره. وأما الثانية فالختام بما فيها مناسب، لأنه لا يضيع عملا صالحا ولا يزيد على من عمل سيئا. وقال في سورة النساء: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما . ثم أعادها وختم بقوله: ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا . ونكتة ذلك أن الأولى نزلت في اليهود، وهم الذين افتروا على الله ما ليس في كتابه، والثانية نزلت في المشركين ولا كتاب لهم وضلالهم أشد. وقوله في المائدة: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . ثم قال في الثانية: فأولئك هم الظالمون . ثم قال في الثالثة: فأولئك هم الفاسقون . ونكتته أن الأولى نزلت في حكام المسلمين. والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى. وقيل الأولى فيمن جحد ما أنزل الله، والثانية فيمن خالفه مع علمه ولم ينكره، والثالثة فيمن خالفه جاهلا. وقيل الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد، عبر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة واجتناب التكرار. وعكس هذا اتفاق الفاصلتين والمحدث عنه مختلف، كقوله في سورة النور: يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ... إلى قوله: كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . ثم قال: وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم . التنبيه الثاني: من مشكلات الفواصل: قوله تعالى: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم . فإن قوله: "وإن تغفر لهم" يقتضي أن تكون الفاصلة الغفور الرحيم. وكذا نقلت عن مصحف أبي، وبها قرأ ابن شنبوذ، وذكر في حكمته أنه لا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، فهو العزيز أي الغالب [ ص: 37 ] والحكيم هو الذي يضع الشيء في محله. وقد يخفى وجه الحكمة على بعض الضعفاء في بعض الأفعال فيتوهم أنه خارج عنها، وليس كذلك، فكان في الوصف بالحكيم احتراس حكيم حسن، وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا يعترض عليك أحد في ذلك، والحكمة فما فعلته. ونظير ذلك في سورة التوبة قوله: أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم . وفي سورة الممتحنة: واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم . وفي النور: ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم . فإن بادي الرأي يقتضي تواب رحيم، لأن الرحمة مناسبة للتوبة، لكن عبر به إشارة إلى فائدة مشروعية اللعان وحكمته، وهي الستر عن هذه الفاحشة العظيمة. ومن خفي ذلك أيضا قوله تعالى في سورة البقرة: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم . وفي آل عمران: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير . فإن المتبادر إلى الذهن في آية البقرة الختم بالقدرة، وفي آل عمران الختم بالعلم. والجواب أن آية البقرة لما تضمنت الإخبار عن خلق الأرض وما فيها على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم، وخلق السماوات خلقا مستويا محكما من غير تفاوت، والخالق على الوصف المذكور يجب أن يكون عالما بما فعله كليا وجزئيا، جملا ومفصلا - ناسب ختمها بصفة العلم. وآية آل عمران لما كانت في سياق الوعيد على موالاة الكفار، وكان التعبير بالعلم فيها كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب ناسب ختمها بصفة القدرة. ومن ذلك قوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا . فالختم بالحلم والمغفرة عقب [ ص: 38 ] تسابيح الأشياء غير ظاهر في بادي الرأي، وذكر في حكمته أنه لما كانت الأشياء كلها تسبح ولا عصيان في حقها وأنتم تعصون ختم بها مراعاة للمقدر في الآية وهو العصيان، كما جاء في الحديث: لولا بهائم رتع، وشيوخ ركع، وأطفال رضع لصب عليكم البلاء صبا. وقيل: التقدير: حليما عن تفريط المسبحين غفورا لذنوبهم. وقيل: حليما عن المخاطبين الذين لا يفقهون التسبيح بإهمالهم النظر في الآيات والعبر ليعرفوا بالتأمل فما أودع في مخلوقاته مما يوجب تنزيهه. التنبيه الثالث: من الفواصل ما لا نظير له في القرآن، كقوله عقب الغض في سورة النور: إن الله خبير بما يصنعون . وقوله عقب الأمر بالدعاء والاستجابة: لعلهم يرشدون . وفيه تعريض بليلة القدر حيث ذكر ذلك عقب ذكر رمضان، أي لعلهم يرشدون إلى معرفتها. وأما التصدير فهو أن تكون تلك اللفظة بعينها تقدمت في أول الآية، ويسمى أيضا رد العجز على الصدر. وقال ابن المعتز هو ثلاثة أقسام: الأول: أن يوافق آخر الفاصلة آخر كلمة في الصدر، نحو: أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا . النساء: 66. والثاني: أن يوافق أول كلمة منه، نحو: وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب . قال إني لعملكم من القالين . الثالث: أن يوافق بعض كلماته، نحو: ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون . انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا . قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ... إلى قوله: وقد خاب من افترى . [ ص: 39 ] وأما التوشيح فهو أن يكون في أول الكلام ما يستلزم القافية. والفرق بينه وبين التصدير أن هذا دلالته معنوية، وذلك لفظية، كقوله تعالى: إن الله اصطفى آدم ... . آل عمران: 33، الآية، فإن اصطفى يدل على أن الفاصلة العالمين لا باللفظ، لأن " العالمين " غير لفظ " اصطفى "، ولكن بالمعنى، لأنه يعلم أن من لوازم اصطفاء شيء أن يكون مختارا على جنسه، وجنس هؤلاء المصطفين "العالمين". وكقوله: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ... الآية. قال ابن أبي الإصبع: فإن من كان حافظا لهذه السورة متفطنا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة، وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة " مظلمون "، لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم، أي دخل في الظلمة، ولذلك سمي توشيحا، لأن الكلام لما دل أوله على آخره نزل المعنى منزلة الوشاح، ونزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح. وقسم البديعيون السجع ومثله الفواصل إلى أقسام: مطرف، ومتواز، ومتوازن، ومرصع، ومتماثل. فالمطرف: أن تختلف الفاصلتان في الوزن ويتفقا في حروف السجع، نحو: ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا . والمتوازي: أن يتفقا وزنا وتقفية، ولم يكن ما في الأولى مقابلا لما في الثانية في الوزن والتقفية، نحو: فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة . والتوازن: أن يتفقا في الوزن دون التقفية، نحو: ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة . والمرصع: أن يتفقا وزنا وتقفية، ويكون ما في الأولى مقابلا لما في الثانية وذلك، نحو: إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم . إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم . [ ص: 40 ] والمتماثل: أن يتساويا في الوزن دون التقفية، ويكون أفراد الأولى مقابلة لما في الثانية، فهو بالنسبة إلى المرصع كالمتوازن بالنسبة إلى المتوازي، نحو: وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم . فالكتاب والصراط متوازنان، وكذا المستبين والمستقيم، واختلفا في الحرف الأخير.

التالي السابق


الخدمات العلمية