الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    6 - ( فصل )

                    وقال ابن عقيل في الفنون " : جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية : أنه هو الحزم ، ولا يخلو من القول به إمام .

                    فقال شافعي : لا سياسة إلا ما وافق الشرع . فقال ابن عقيل : السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نزل به وحي ، فإن أردت بقولك : " إلا ما وافق الشرع " أي لم يخالف ما نطق به الشرع : فصحيح .

                    وإن أردت : لا سياسة إلا ما نطق به الشرع : فغلط ، وتغليط للصحابة فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن ، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف .

                    [ ص: 13 ] فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة ، وتحريق علي رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد وقال :

                    لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا

                    ونفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنصر بن حجاج . ا هـ . وهذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك ، ومعترك صعب ، فرط فيه طائفة ، فعطلوا الحدود ، وضيعوا الحقوق ، وجرءوا أهل الفجور على الفساد ، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، محتاجة إلى غيرها ، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له ، وعطلوها ، مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع ، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع .

                    ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم ، والذي أوجب لهم ذلك : نوع تقصير في معرفة الشريعة ، وتقصير في معرفة الواقع ، وتنزيل أحدهما على الآخر ، فلما رأى ولاة الأمور ذلك ، وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة ، أحدثوا من أوضاع سياساتهم شرا طويلا ، وفسادا عريضا فتفاقم الأمر ، وتعذر استدراكه ، وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك ، واستنقاذها من تلك المهالك .

                    وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة ، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله ، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله ، وأنزل به كتابه .

                    فإن الله سبحانه أرسل رسله ، وأنزل كتبه ، ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات .

                    فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان ، فثم شرع الله ودينه ، والله سبحانه أعلم وأحكم ، وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة ، وأبين أمارة .

                    فلا يجعله منها ، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها ، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق ، أن مقصوده إقامة العدل بين عباده ، وقيام الناس بالقسط ، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ، وليست مخالفة له . [ ص: 14 ] فلا يقال : إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع ، بل هي موافقة لما جاء به ، بل هي جزء من أجزائه ، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحهم ، وإنما هي عدل الله ورسوله ، ظهر بهذه الأمارات والعلامات .

                    { فقد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة ، وعاقب في تهمة ، لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم } ، فمن أطلق كل متهم وحلفه وخلى سبيله - مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض ، وكثرة سرقاته ، وقال : لا آخذه إلا بشاهدي عدل - فقوله مخالف للسياسة الشرعية .

                    { وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم الغال من الغنيمة سهمه ، وحرق متاعه هو وخلفاؤه من بعده } { ومنع القاتل من السلب لما أساء شافعه على أمير السرية } ، فعاقب المشفوع له عقوبة للشفيع . { وعزم على تحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة } . { وأضعف الغرم على سارق ما لا قطع فيه ، وشرع فيه جلدات ، نكالا وتأديبا } { وأضعف الغرم على كاتم الضالة عن صاحبها } . [ ص: 15 ]

                    وقال في تارك الزكاة : { إنا آخذوها منه وشطر ماله ، عزمة من عزمات ربنا } . { وأمر بكسر دنان الخمر } . { وأمر بكسر القدور التي طبخ فيها اللحم الحرام . ثم نسخ عنهم الكسر ، وأمرهم بالغسل } .

                    { وأمر عبد الله بن عمرو بتحريق الثوبين المعصفرين ، فسجرهما في التنور } . { وأمر المرأة التي لعنت ناقتها أن تخلي سبيلها } . { وأمر بقتل شارب الخمر بعد الثالثة والرابعة } ، ولم ينسخ ذلك ، ولم يجعله حدا لا بد منه بل [ ص: 16 ] هو بحسب المصلحة إلى رأي الإمام ، وكذلك زاد عمر رضي الله عنه عنه في الحد عن الأربعين ونفى فيها .

                    { وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الذي كان يتهم بأم ولده ، فلما تبين أنه خصي تركه } { وأمر بإمساك اليهودي الذي أومأت الجارية برأسها أنه رضخه بين حجرين فأخذ فأقر فرضخ رأسه } وهذا يدل على جواز أخذ المتهم إذا قامت قرينة التهمة .

                    والظاهر : أنه لم تقم عليه بينة ، ولا أقر اختيارا منه للقتل ، وإنما هدد أو ضرب فأقر ، وكذلك العرنيون فعل بهم ما فعل بناء على شاهد الحال ولم يطلب بينة بما فعلوا ، ولا وقف الأمر على إقرارهم .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية