الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 54 ) مسألة قال : ( وكل إناء حلت فيه نجاسة ; من ولوغ كلب ، أو بول ، أو غيره ، فإنه يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب ) النجاسة تنقسم قسمين : أحدهما ; نجاسة الكلب والخنزير والمتولد منهما ، فهذا لا يختلف المذهب في أنه يجب غسلها سبعا ، إحداهن بالتراب ، وهو قول الشافعي .

                                                                                                                                            وعن أحمد : أنه يجب غسلها ثمانيا ، إحداهن بالتراب ، وروي ذلك عن الحسن ; لحديث عبد الله بن المغفل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { قال : إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات ، وعفروه الثامنة بالتراب . } رواه مسلم . والرواية الأولى أصح ، ويحمل هذا الحديث على أنه عد التراب ثامنة ; لأنه وإن وجد مع إحدى الغسلات فهو جنس آخر ، فيجمع بين الخبرين .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا يجب العدد في شيء من النجاسات ، وإنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه من النجاسة ; لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الكلب يلغ في الإناء : { يغسل ثلاثا ، أو خمسا ، أو سبعا } فلم يعين عددا ; ولأنها نجاسة ، فلم يجب فيها العدد ، كما لو كانت على الأرض . ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا } . متفق عليه ، ولمسلم ، وأبي داود : { أولاهن بالتراب } . وحديث عبد الله بن المغفل ، الذي ذكرناه . وحديثهم يرويه عبد الوهاب بن الضحاك ، وهو ضعيف . وقد روى غيره من الثقات : { فليغسله سبعا } .

                                                                                                                                            وعلى أنه يحتمل الشك من الراوي ، فينبغي أن يتوقف فيه ، ويعمل بغيره . وأما الأرض فإنه سومح في غسلها للمشقة ، بخلاف غيرها .

                                                                                                                                            ( 55 ) فصل : فإن جعل مكان التراب غيره ; من الأشنان ، والصابون ، والنخالة ، ونحو ذلك ، أو غسله غسلة ثامنة ، فقال أبو بكر : فيه وجهان : أحدهما لا يجزئه ; لأنه طهارة أمر فيها بالتراب ، فلم يقم غيره مقامه ، كالتيمم ; ولأن الأمر به تعبد غير معقول ، فلا يجوز القياس فيه .

                                                                                                                                            والثاني : يجزئه ; لأن هذه الأشياء أبلغ من التراب في الإزالة ، فنصه على التراب تنبيه عليها ; ولأنه جامد أمر به في إزالة النجاسة ، فألحق به ما يماثله كالحجر في الاستجمار .

                                                                                                                                            فأما الغسلة الثامنة فالصحيح أنها لا تقوم مقام التراب ; لأنه إن كان القصد به تقوية الماء في الإزالة فلا يحصل ذلك بالثامنة ; لأن الجمع بينهما أبلغ في الإزالة ، وإن وجب تعبدا امتنع إبداله ، والقياس عليه . وقال بعض أصحابنا : إنما يجوز العدول إلى غير التراب عند عدمه ، أو إفساد المحل المغسول به ، فأما مع وجوده وعدم الضرر فلا وهذا قول ابن حامد .

                                                                                                                                            القسم الثاني : نجاسة غير الكلب والخنزير ، ففيها روايتان : إحداهما يجب العدد فيها قياسا على نجاسة الولوغ ، وروي عن ابن عمر ، ، أنه قال : { أمرنا بغسل الأنجاس سبعا . } فينصرف إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            والثانية ، لا يجب العدد ، بل يجزئ فيها المكاثرة بالماء من غير عدد ، بحيث تزول عين النجاسة ، وهذا قول الشافعي لما روي عن ابن عمر ، قال : { كانت الصلاة خمسين ، والغسل من الجنابة سبع مرات ، والغسل من البول سبع مرات ، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل [ ص: 47 ] حتى جعلت الصلاة خمسا ، والغسل من البول مرة ، والغسل من الجنابة مرة } رواه الإمام أحمد ، في " مسنده " وأبو داود ، في " سننه " وهذا نص ، إلا أن في مراجعة أيوب بن جابر ، وهو ضعيف ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا أصاب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ، ثم لتنضحه بماء ، ثم لتصل فيه } . رواه البخاري .

                                                                                                                                            ولم يأمر فيه بعدد ، وفي حديث آخر ، { أن امرأة ركبت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته ، فلما نزلت إذا على حقيبته شيء من دمها ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تجعل في الماء ملحا ، ثم تغسل به الدم } . رواه أبو داود ، ولم يأمرها بعدد { ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب على بول الأعرابي سجل من ماء } . متفق عليه ، ولم يأمر بالعدد .

                                                                                                                                            ولأنها نجاسة غير الكلب ، فلم يجب فيها العدد ، وروي أن العدد لا يعتبر في غير محل الاستنجاء من البدن ، ويعتبر في محل الاستنجاء وبقية المحال ، قال الخلال : هذه الرواية وهم . ولم يثبتها . فإذا قلنا : بوجوب العدد ، ففي قدره روايتان : إحداهما سبع ; لما قدمنا .

                                                                                                                                            والثانية ، ثلاث ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قام أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ; فإنه لا يدري أين باتت يده } . متفق عليه . إلا قوله " ثلاثا " انفرد به مسلم ، أمر بغسلها ثلاثا ; ليرتفع وهم النجاسة ، ولا يرفع وهم النجاسة إلا ما يرفع حقيقتها . وقد روي أن النجاسة في محل الاستنجاء تطهر بثلاث ، وفي غيره تطهر بسبع ; لأن محل الاستنجاء تتكرر فيه النجاسة ، فاقتضى ذلك التخفيف ، وقد اجتزئ فيها بثلاثة أحجار ، مع أن الماء أبلغ في الإزالة ، فأولى أن يجتزئ فيها بثلاث غسلات .

                                                                                                                                            قال القاضي : الظاهر من قول أحمد ما اختار الخرقي ، وهو وجوب العدد في جميع النجاسات . فإن قلنا لا يجب العدد لم يجب التراب ، وكذلك إن قلنا : لا يجب الغسل سبعا ; لأن الأصل عدم وجوبه ، ولم يرد الشرع به إلا في نجاسة الولوغ . وإن قلنا بوجوب السبع ، ففي وجوب التراب وجهان : أحدهما يجب ; قياسا على الولوغ .

                                                                                                                                            والثاني لا يجب ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل للدم وغيره ، ولم يأمر بالتراب إلا في نجاسة الولوغ ، فوجب أن يقتصر عليه ; ولأن التراب إن أمر به تعبدا وجب قصره على محله ، وإن أمر به لمعنى في الولوغ للزوجة فيه لا تنقلع إلا بالتراب ، فلا يوجد ذلك في غيره ، والمستحب أن يجعل التراب في الغسلة الأولى ; لموافقته لفظ الخبر ، وليأتي الماء عليه بعده فينظفه ، ومتى غسل به أجزأه ; لأنه روي في حديث : " إحداهن بالتراب " . وفي حديث : " أولاهن " ، وفي حديث : " في الثامنة " ، فيدل على أن محل التراب من الغسلات غير مقصود .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية