الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
القول في التقديم والتأخير

هو أحد أساليب البلاغة ؛
فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة ، وملكتهم في الكلام ، وانقياده لهم ، وله في القلوب أحسن موقع ، وأعذب مذاق .

وقد اختلف في عده من المجاز ، فمنهم من عده منه ؛ لأنه تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول ، وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل ، نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه .

والصحيح أنه ليس منه ؛ فإن المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع .

ويقع الكلام فيه في فصول

الفصل الأول

الأول : في أسبابه ، وهي كثيرة :

أحدها : أن يكون أصله التقديم ، ولا مقتضى للعدول عنه ، كتقديم الفاعل على المفعول ، والمبتدأ على الخبر ، وصاحب الحال عليها ، نحو : " جاء زيد راكبا " .

[ ص: 304 ] والثاني : أن يكون في التأخير إخلال ببيان المعنى ، كقوله تعالى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ( غافر : 28 ) فإنه لو أخر قوله : من آل فرعون ( غافر : 28 ) عن قوله يكتم إيمانه لتوهم أنه من صفة ( يكتم ) فيكون المعنى : إن الرجل يكتم إيمانه من آل فرعون ، فلا يفهم أنه منهم .

وجعل السكاكي من الأسباب كون التأخير مانعا مثل الإخلال بالمقصود ؛ كقوله تعالى : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ( المؤمنون : 33 ) بتقديم الحال أعني ( من قومه ) ( المؤمنون : 33 ) على الوصف أعني ( الذين كفروا ) ( المؤمنون : 33 ) ولو تأخر لتوهم أنه من صفة الدنيا ؛ لأنها هاهنا اسم تفضيل من الدنو وليست اسما ، والدنو يتعدى بـ " من " ، وحينئذ يشتبه الأمر في القائلين أنهم أهم من قومه أم لا ؟ فقدم لاشتمال التأخير على الإخلال ببيان المعنى المقصود ، وهو كون القائلين من قومه ، وحين أمن هذا الإخلال بالتأخير قال تعالى في موضع آخر من هذه السورة : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم ( المؤمنون : 24 ) بتأخير المجرور عن صفة المرفوع .

الثالث : أن يكون في التأخير إخلال بالتناسب ، فيقدم لمشاكلة الكلام ولرعاية الفاصلة ، كقوله : واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ( فصلت : : 37 ) بتقديم " إياه " على " تعبدون " ؛ لمشاكلة رءوس الآي ، وكقوله : فأوجس في نفسه خيفة موسى ( طه : 67 ) [ ص: 305 ] فإنه لو أخر ( في نفسه ) ( طه : 67 ) عن موسى ( طه : 67 ) فات تناسب الفواصل ؛ لأن قبله يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( طه : 66 ) وبعده إنك أنت الأعلى ( طه : 68 ) .

وكقوله : وتغشى وجوههم النار ( إبراهيم : 50 ) فإن تأخير الفاعل عن المفعول لمناسبته لما بعده .

وكقوله : إن الله سريع الحساب ( إبراهيم : 51 ) وهو أشكل بما قبله ؛ لأن قبله مقرنين في الأصفاد ( إبراهيم : 49 ) .

وجعل منه السكاكي : آمنا برب هارون وموسى ( طه : 70 ) بتقديم هارون ( طه : 70 ) مع أن موسى ( طه : 70 ) أحق بالتقديم .

الرابع : لعظمه والاهتمام به ؛ وذلك أن من عادة العرب الفصحاء إذا أخبرت عن مخبر ما ، وأناطت به حكما ، وقد يشركه غيره في ذلك الحكم ، أو فيما أخبر به عنه ، وقد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب ، فإنهم مع ذلك إنما يبدءون بالأهم والأولى ، قال سيبويه : " كأنهم يقدمون الذي شأنه أهم لهم وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم . انتهى .

قال تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فبدأ بالصلاة لأنها أهم .

وقال سبحانه وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ( التغابن : 12 ) .

[ ص: 306 ] وقال تعالى : فآمنوا بالله ورسوله ( الأعراف : 158 ) .

وقال تعالى : والله ورسوله أحق ( التوبة : 62 ) .

وقال تعالى : إياك نعبد وإياك نستعين ( الفاتحة : 5 ) فقدم العبادة للاهتمام بها .

ومنه تقدير المحذوف في ( بسم الله ) مؤخرا .

وأوردوا اقرأ باسم ربك ( العلق : 1 ) وأجيب بوجهين :

أحدهما : أن تقديم الفعل هناك أهم ؛ لأنها أول سورة نزلت .

والثاني أن ( باسم ربك ) ( العلق : 1 ) متعلق بـ ( اقرأ ) الثاني ، ومعنى الأول : أوجد القراءة ، والقصد التعميم .

الخامس : أن يكون الخاطر ملتفتا إليه ، والهمة معقودة به ، وذلك كقوله تعالى : وجعلوا لله شركاء الجن ( الأنعام : 100 ) بتقديم المجرور على المفعول الأول ؛ لأن الإنكار متوجه إلى الجعل لله لا إلى مطلق الجعل .

السادس : أن يكون التقديم لإرادة التبكيت والتعجيب من حال المذكور ، كتقديم المفعول الثاني على الأول في قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء الجن ( الأنعام : 100 ) والأصل : الجن شركاء ، وقدم لأن المقصود التوبيخ ، وتقديم ( الشركاء ) أبلغ في حصوله .

ومنه قوله تعالى في سورة يس : وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ( يس : 20 ) وسنذكره .

السابع : الاختصاص ، وذلك بتقديم المفعول والخبر والظرف والجار والمجرور ، [ ص: 307 ] ونحوها تقديم المفعول على الفعل ؛ كقوله تعالى : إياك نعبد ( الفاتحة : 5 ) أي : نخصك بالعبادة ، فلا نعبد غيرك .

وقوله : إن كنتم إياه تعبدون ( النحل : 114 ) أي : إن كنتم تخصونه بالعبادة .

والخبر كقوله تعالى : قال أراغب أنت عن آلهتي ( مريم : 46 ) وقوله : وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ( الحشر : 2 ) .

وأما تقديم الظرف ففيه تفصيل ، فإن كان في الإثبات دل على الاختصاص ، كقوله تعالى : إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ( الغاشية : 25 - 26 ) وكذلك : له الملك وله الحمد ( التغابن : 1 ) فإن ذلك يفيد اختصاص ذلك بالله تعالى ، وقوله : لإلى الله تحشرون ( آل عمران : 158 ) أي : لا إلى غيره ، وقوله : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ( البقرة : 143 ) أخرت صلة الشهادة في الأول ، وقدمت في الثاني ؛ لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم .

وقوله : وأرسلناك للناس رسولا ( النساء : 79 ) أي : لجميع الناس من العجم والعرب على أن التعريف للاستغراق .

وإن كان في النفي فإن تقديمه يفيد تفضيل المنفي عنه ، كما في قوله تعالى : لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ( الصافات : 47 ) أي : ليس في خمر الجنة ما في خمرة غيرها من الغول .

وأما تأخيره فإنها تفيد النفي فقط ، كما في قوله : لا ريب فيه ( البقرة : 2 ) فكذلك إذا قلنا لا عيب في الدار ؛ كان معناه نفي العيب في الدار ، وإذا قلنا لا في الدار عيب . كان معناه : أنها تفضل على غيرها بعدم العيب .

[ ص: 308 ] تنبيه

ما ذكرناه من أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص ، فهمه الشيخ أبو حيان في كلام الزمخشري وغيره ، والذي عليه محققو البيانيين أن ذلك غالب لا لازم ؛ بدليل قوله تعالى : كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ( الأنعام : 84 ) وقوله : أفي الله شك ( إبراهيم : 10 ) إن جعلنا ما بعد الظرف مبتدأ .

وقد رد صاحب " الفلك الدائر " القاعدة بالآية الأولى ، وكذلك ابن الحاجب والشيخ أبو حيان ، وخالفوا البيانيين في ذلك ، وأنت إذا علمت أنهم ذكروا في ذلك قيد الغلبة سهل الأمر ، نعم له شرطان :

أحدهما : ألا يكون المعمول مقدما بالوضع ؛ فإن ذلك لا يسمى تقديما حقيقة ، كاسم الاستفهام ، وكالمبتدأ عند من يجعله معمولا لخبره .

والثاني : ألا يكون التقديم لمصلحة التركيب ، مثل : وأما ثمود فهديناهم ( فصلت : 17 ) على قراءة النصب .

وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة ، وهي قوله تعالى : أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ( الأنعام : 40 - 41 ) التقديم في الأول قطعا ليس للاختصاص بخلاف الثاني .

التالي السابق


الخدمات العلمية