الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن أحرم فأحصره غريمه وحبسه ولم يجد ما يقضي دينه فله أن يتحلل لأنه يشق البقاء على الإحرام كما يشق بحبس العدو ، وإن أحرم وأحصره المرض لم يجز له أن يتحلل لأنه لا يتخلص بالتحلل من الأذى الذي هو فيه [ فلا يتحلل ] فهو كمن ضل الطريق ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) في الفصل مسألتان ( إحداهما ) قد سبق قريبا أن الحصر [ ص: 299 ] نوعان ، عام وخاص ، وسبق بيان النوعين ( الثانية ) في الإحصار بالمرض وقد ثبت فيه أحاديث كثيرة فينبغي تقديمها وقد ذكر المصنف المسألة بعد هذا مبسوطة في فصل مستقل . فأما الأحاديث فمنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت { دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وإني شاكية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حجي واشترطي أن محلي حيث تحبسني ، وكانت تحت المقداد } رواه البخاري ومسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما { أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فما تأمرني ؟ قال أهلي بالحج واشترطي أن تحلي حيث تحبسني ، قال : فأدركت } رواه مسلم . وعن ابن عباس أيضا { أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إني أريد أن أحج فأشترط ، قال : نعم ، قالت فكيف أقول ؟ قال قولي : لبيك اللهم لبيك محلي من الأرض حيث تحبسني } رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة ، قال الترمذي : حسن صحيح ، ورواه البيهقي أيضا من رواية جابر وأنس . [ ص: 300 ] وعن سويد بن غفلة - بفتح الغين المعجمة والفاء - قال " قال لي عمر بن الخطاب : يا أبا أمية حج واشترط ، فإن لك ما اشترطت ولله عليك ما اشترطت " رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح .

                                      وعن ابن مسعود قال " حج واشترط ، وقل : اللهم الحج أردت ، ولك عمدت ، فإن تيسر وإلا فعمرة " رواه البيهقي بإسناد حسن . وعن عائشة أنها قالت لعروة " هل تستثني إذا حججت ، فقال : ماذا أقول ؟ قالت : قل : اللهم الحج أردت وله عمدت ، فإن يسرته فهو الحج ، وإن حبسني حابس فهو عمرة " رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم .

                                      ( وأما ) حديث سالم عن ابن عمر { أنه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه البخاري ومسلم ، فقال البيهقي : عندي أن ابن عمر لو بلغه حديث ضباعة في الاشتراط لم ينكره ، كما لم ينكره أبوه ، وحاصله أن السنة مقدمة عليه . ( وأما ) قول ابن عباس " لا حصر إلا حصر العدو " فرواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وهو محمول على من لم يشترط وأما ما رواه مالك في الموطأ والشافعي والبيهقي بالأسانيد الصحيحة على شرط البخاري ومسلم عن ابن عمر أنه قال " من حبس دون البيت بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة " يحتمل أنه أراد إذا لم يشترط ( والأظهر ) أنه أراد مطلقا ، ويؤيده ما قدمناه عن ابن عمر قريبا ، والسنة مقدمة على قوله .

                                      ( وأما ) حديث عكرمة قال " سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري الصحابي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل } ، قال عكرمة : فسألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقال : صدق " رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه [ ص: 301 ] والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة ، فقال البيهقي حمله بعض أهل العلم على أنه يحل بعد فواته بما يحل به من يفوته الحج بغير مرض ، وهذا التأويل الذي حكاه البيهقي محتمل ولكن المشهور في كتب أصحابنا حمله على ما إذا شرط التحلل به والله أعلم .

                                      أما حكم المسألة فقال أصحابنا إذا مرض المحرم ، ولم يكن شرط التحلل ، فليس له التحلل بلا خلاف ، لما ذكره المصنف مع ما ذكرناه من الآثار ، قالوا : بل يصبر حتى يبرأ ، فإن كان محرما بعمرة أتمها ، وإن كان بحج وفاته تحلل بعمل عمرة ، وعليه القضاء . وأما إذا شرط في إحرامه أنه إن مرض تحلل ، فقد نص الشافعي في القديم على صحة الشرط ، لحديث ضباعة ، ونص في كتاب المناسك من الجديد على أنه لا يتحلل ، وروى الشافعي حديث ضباعة مرسلا فقال " عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضباعة " الحديث قال الشافعي : لو ثبت حديث عروة لم أعده إلى غيره ، لأنه لا يحل عندي خلاف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال البيهقي : وثبت هذا الحديث من أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم روى الأحاديث الصحيحة السابقة فيه هذه نصوص الشافعي .

                                      ( وأما ) الأصحاب فلهم في المسألة طريقان حكاهما المصنف والأصحاب ( أشهرهما ) وبه قال الأكثرون : يصح الاشتراط في قوله القديم ، وفي الجديد قولان ( أصحهما ) الصحة ( والثاني ) المنع .

                                      ( والطريق الثاني ) قاله الشيخ أبو حامد وآخرون : يصح الاشتراط قولا واحدا لصحة الحديث فيه ، قالوا : وإنما توقف الشافعي لعدم وقوفه على صحة الحديث ، وقد صرح الشافعي بهذا الطريق في نصه الذي حكيته الآن عنه ، وهو قوله ( لو صح حديث عروة لم أعده ) فالصواب الجزم بصحة الاشتراط للأحاديث . [ ص: 302 ] وأجاب إمام الحرمين عن الحديث بأنه محمول على أن المراد حيث حبستني بالموت ، معناه حيث أدركتني الوفاة أقطع إحرامي ، وهذا تأويل باطل ظاهر الفساد وعجب من جلالة إمام الحرمين كيف قال هذا ؟ وكيف حكمه على أمرها باشتراط كون الموت قاطع الإحرام ؟ ، والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : ولو شرط التحلل لغرض آخر كضلال الطريق ، وفراغ النفقة والخطأ في العدد ونحو ذلك فله حكم اشتراط التحلل بالمرض . فيصح على المذهب هكذا قطع به أصحابنا العراقيون والبغوي وجمهور الخراسانيين . وذكر إمام الحرمين هذا عن العراقيين قال : قالوا : بأن كل مهم يحل محل المرض الثقيل يجري فيه الخلاف المذكور في المرض قال : وكان شيخي يقطع بأن الشرط لاغ ، وأنه لا يجوز التحلل على القول إلا بالمرض للحديث ، والله تعالى أعلم .

                                      قال أصحابنا : وحيث صححنا الشرط فتحلل فإن كان شرط التحلل بالهدي يلزمه الهدي ، وإن كان شرط التحلل بلا هدي لم يلزمه الهدي ، وإن أطلق فهل يلزمه الهدي ؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب والأصحاب ( أحدهما ) يلزمه كالمحصر ، وبهذا قطع المصنف والبغوي ( وأصحهما ) لا يلزمه لظاهر حديث ضباعة ، قال الماوردي والأصحاب وهذا هو المنصوص وصححوه ، وقطع به الدارمي وغيره ، وينكر على المصنف والبغوي جزمهما بوجود الشرط ، وأنه لا يلزمه بعد ذلك شيء من أفعال النسك .

                                      ( وأما ) المحصر فقد ترك الأفعال التي كان يقتضيها إحرامه والله أعلم .

                                      ولو شرط أن يقلب حجه عمرة عند المرض ، نص الشافعي على صحته ، وقطع به الدارمي والبندنيجي والروياني وآخرون . ونقل الرافعي عن الأصحاب أنه أولى بالصحة من شرط المرض . فيقتضي إثبات خلاف ضعيف [ ص: 303 ] فيه . والمذهب القطع بالصحة كما نص عليه . ويؤيده ما قدمته عن ابن مسعود وعائشة رضي الله عنهما قال الروياني : ولو قال : إن مرضت وفاتني الحج كان عمرة ، كان على ما شرط . قال أصحابنا : فإذا وجد المرض هل يصير حلالا بمجرد وجوده ؟ أم يشترط إنشاؤه كالمحصر ؟ ينظر إن قال : إن مرضت تحللت من إحرامي فلا يخرج من الإحرام إذا وجد المرض إلا بالتحلل ، وهو أن ينوي الخروج ويحلق إن جعلناه نسكا ويذبح إن أوجبناه على ما سبق من التفصيل والخلاف . وممن صرح بالمسألة الشيخ أبو حامد في تعليقه والبندنيجي والروياني وآخرون . قالوا : وكذا لو قال : محلي من الأرض حيث حبستني ، لا يتحلل عند الحبس إلا بالنية مع ما ذكرناه ، فلو قال : إن مرضت فأنا حلال ، أو قال إن حبسني مرض فأنا حلال فوجهان مشهوران حكاهما الشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والمصنف وإمام الحرمين والبغوي والمتولي والروياني وآخرون ( أصحهما ) يصير حلالا بنفس المرض ، وهو المنصوص ، ونقلوه عن المصنف وصححوه لقوله صلى الله عليه وسلم { من كسر أو عرج فقد حل } وهو حديث صحيح كما سبق . قال الشيخ أبو حامد والأصحاب : لا يمكن حمل الحديث إلا على هذا ، وفيه تأويل البيهقي الذي قدمناه .

                                      ( والوجه الثاني ) لا بد من التحلل . قال الروياني والأصحاب : فإن قلنا بالوجه الأول لم يلزمه الدم بلا خلاف ، وإن قلنا بالثاني فهل يلزمه الدم ؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد والأصحاب ( الأصح ) لا يلزمه فيلزمه النية فقط ، ونقل الماوردي وغيره هذا عن نص الشافعي ، وغلط الروياني وغيره القائل بوجوب الدم . قال البغوي : وكذا الحلق إن جعلناه نسكا . وقطع البغوي بوجوب الدم على هذا الوجه ، والمذهب الأول والله أعلم .

                                      [ ص: 304 ] أما إذا شرط التحلل بلا عذر بأن قال في إحرامه متى شئت خرجت منه ، أو إن ندمت أو كسلت ونحو ذلك لا يجوز له التحلل بلا خلاف ، صرح به المصنف والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والدارمي والروياني والبغوي وخلائق . ونقل الروياني الاتفاق عليه ، والله أعلم



                                      ( فرع ) إذا صححنا اشتراط التحلل بالمرض ونحوه ، فإنما ينفع الشرط ويجوز التحلل به إذا كان مقترنا بإحرامه ، فإن تقدمه أو تأخر عنه لم ينعقد الشرط بلا خلاف . وصرح به الماوردي وغيره .

                                      ( فرع ) إذا فرض التحلل بالمرض ونحوه فقد ذكرنا خلافا في صحة الشرط قال أصحابنا : ينعقد الحج بلا خلاف ، سواء صححنا الشرط أم لا .

                                      ( فرع ) مما استدل به أصحابنا لجواز اشتراط التحلل بالمرض وصحة الشرط أنه لو نذر صوم يوم أو أيام بشرط أن يخرج منه بعذر صح الشرط وجاز الخروج منه بذلك العذر بلا خلاف . قال الروياني : يجوز الخروج منه بالإجماع .

                                      ( فرع ) ذكرنا أن إمام الحرمين تأول حديث ضباعة أنه يحمل على أن ( محلي حيث حبستني بالموت ) وذكرنا أن هذا التأويل خطأ فاحش ، وتأوله الروياني على أنه مخصوص بضباعة ، وهذا تأويل باطل أيضا ومخالف لنص الشافعي ، فإن الشافعي إنما قال : لو صح الحديث لم أعده ، ولم يتأوله ولم يخصه ( فرع ) قال أصحابنا : التحلل بالمرض ونحوه إذا ما صححناه له حكم التحلل بالإحصار ، فإن كان الحج تطوعا لم يجب قضاؤه ، وإن كان واجبا فحكمه ما سبق .

                                      [ ص: 305 ] فرع ) قال إمام الحرمين والغزالي في الوسيط : قال النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة الأسلمية { اشترطي أن محلي حيث حبستني } وهذا غلط فاحش ، فليس ضباعة أسلمية بل هي هاشمية ، وهي بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، وهذا لا خلاف فيه وقد سبق بيانها عن روايات البخاري ومسلم وغيرهما ، وإنما نبهت عليه لئلا يغتر به ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية