الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولى رجلا شيئا ) أي باعه تولية ( بما قام عليه أو بما اشتراه ) به ( ولم يعلم المشتري بكم قام عليه فسد ) البيع لجهالة الثمن ( وكذا ) حكم ( المرابحة وخير ) المشتري بين أخذه وتركه ( لو علم في مجلسه ) وإلا بطل . ( و ) اعلم أنه ( لا رد بغبن فاحش ) [ ص: 143 ] هو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين ( في ظاهر الرواية ) وبه أفتى بعضهم مطلقا كما في القنية ثم رقم وقال ( ويفتى بالرد ) رفقا بالناس وعليه أكثر روايات المضاربة وبه يفتى ثم رقم وقال ( إن غره ) أي غر المشتري البائع أو بالعكس أو غره الدلال فله الرد ( وإلا لا ) وبه أفتى صدر الإسلام وغيره ثم قال ( وتصرفه في بعض المبيع ) قبل علمه بالغبن ( غير مانع منه ) فيرد مثل ما أتلفه ويرجع بكل الثمن على الصواب ا هـ ملخصا بقي ما لو كان قيميا لم أره [ ص: 144 ]

قلت : وبالأخير جزم الإمام علاء الدين السمرقندي في تحفة الفقهاء وصححه الزيلعي وغيره وفي كفالة الأشباه عن بيوع الخانية من فصل الغرور : الغرور لا يوجب الرجوع إلا في ثلاث منها : هذه ، وضابطها أن يكون في عقد يرجع نفعه إلى الدافع كوديعة وإجارة ، فلو هلكا ثم استحقا رجع على الدافع بما ضمنه ولا رجوع في عارية وهبة لكون القبض لنفسه . [ ص: 145 ]

الثانية : أن يكون في ضمن عقد معاوضة كبايعوا عبدي أو ابني فقد أذنت له ثم ظهر حرا أو ابن الغير رجعوا عليه للغرور وإن كان الأب حرا وإلا فبعد العتق وهذا إن أضافه إليه وأمر بمبايعته ومنه لو بنى المشتري أو استولد ثم استحقا رجع على البائع بقيمة البناء والولد ومنه ما يأتي في باب الاستحقاق اشترني فأنا عبد بخلاف ارتهني .

الثالثة : إذا كان الغرور بالشروط كما لو زوجه امرأة على أنها حرة ثم استحقت رجع على المخبر بقيمة الولد المستحق وسيجيء آخر الدعوى .

التالي السابق


( قوله : وخير إلخ ) لأن الفساد لم يتقرر فإذا حصل العلم في المجلس جعل كابتداء العقد ; وصار كتأخير القبول إلى آخر المجلس ، ونظيره بيع الشيء برقمه إذا علم في المجلس ، وإنما يتخير ; لأن الرضا لم يتم قبله ، لعدم العلم كما في خيار الرؤية ، وظاهر كلام المصنف وغيره : أن هذا العقد ينعقد فاسدا بعرضية الصحة ، وهو الصحيح خلافا للمروي عن محمد أنه صحيح له عرضية الفساد كذا في الفتح ، وينبغي أن تظهر الثمرة في حرمة مباشرته فعلى الصحيح يحرم وعلى الضعيف لا بحر . ( قوله : وإلا بطل ) أي تقرر فساده ط . [ تتمة ]

في الظهيرية : اشتراه بأكثر من ثمنه مما لا يتغابن الناس فيه ، وهو يعلم لا يرابح بلا بيان ، وكذا لو اشترى بالدين من مدينه ، وهو لا يشتري بمثل الثمن من غيره فلو يشتري بمثله له أن يرابح ، سواء أخذه بلفظ الشراء أو الصلح ، وفي ظاهر الرواية يفرق بينهما بأن مبنى الصلح على الحط والتجوز بدون الحق ، ومبنى الشراء على الاستقصاء ا هـ ملخصا . مطلب في الكلام على الرد بالغبن الفاحش

. ( قوله : لا رد بغبن فاحش ) في البحر عن المصباح : غبنه في البيع والشراء غبنا من باب ضرب ، مثل غبنه فانغبن وغبنه أي نقصه ، وغبن بالبناء للمفعول فهو مغبون أي منقوص في الثمن أو غيره والغبينة اسم منه [ ص: 143 ] قوله : هو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين ) هو الصحيح كما في البحر ، وذلك كما لو وقع البيع بعشرة مثلا ، ثم إن بعض المقومين يقول إنه يساوي خمسة ، وبعضهم ستة وبعضهم سبعة فهذا غبن فاحش ; لأنه لم يدخل تحت تقويم أحد بخلاف ما إذا قال بعضهم : ثمانية وبعضهم تسعة وبعضهم : عشرة فهذا غبن يسير . ( قوله : وبه أفتى بعضهم مطلقا ) أي سواء كان الغبن بسبب التغرير أو بدونه لكن هذا الإطلاق لم يذكره في القنية ، وإنما حكى في القنية الأقوال الثلاثة ، فيفهم منه أن هذا غير مقيد بالتغرير أو بدونه ، ولكن نقل في الفتح أن الإمام علاء الدين السمرقندي ذكر في تحفة الفقهاء : أن أصحابنا يقولون في المغبون : إنه لا يرد لكن هذا في مغبون لم يغر أما في مغبون غر يكون له حق الرد استدلالا بمسألة المرابحة ا هـ أي بمسألة ما إذا خان في المرابحة فإن ذلك تغرير يثبت به الرد . ( قوله : ويفتى بالرد ) ظاهره الإطلاق : أي سواء غره أو لا بقرينة القول الثالث . ( قوله : أو غره الدلال ) قال الرملي : مفهومه أنه لو غره رجل أجنبي غير الدلال لا يثبت له الرد ، بقي ما لو غر المشتري البائع في العقار فأخذه الشفيع هل للبائع أن يسترد منه ينبغي عدمه ; لأنه لم يغره وإنما غره المشتري ، وتمامه في حاشيته على البحر . ( قوله : وبه أفتى صدر الإسلام وغيره ) وهو الصحيح كما يأتي وظاهر كلامهم أن الخلاف حقيقي ، ولو قيل إنه لفظي ويحمل القولان المطلقان على القول المفصل ، لكان حسنا ويدل عليه حمل صاحب التحفة المتقدم ط .

قلت : ويؤيده أيضا عدم التصريح بالإطلاق في القولين الأولين ، وحيث كان ظاهر الرواية محمولا على هذا القول المفصل ، يكون هو ظاهر الرواية إذ لم يذكروا أن ظاهر الرواية عدم الرد مطلقا ، حتى ينافي التفصيل ، فلذا جزم في التحفة بحمله على التفصيل ، وحينئذ لم يبق لنا إلا قول واحد ، هو المصرح بأنه ظاهر الرواية ، وبأنه المذهب وبأنه المفتى به وبأنه الصحيح ، فمن أفتى في زماننا بالرد مطلقا فقد أخطأ خطأ فاحشا لما علمت من أن التفصيل هو المصحح المفتى به ، ولا سيما بعد التوفيق المذكور ، وقد أوضحت ذلك بما لا مزيد عليه في رسالة سميتها [ تحبير التحرير في إبطال القضاء بالفسخ بالغبن الفاحش بلا تغرير ] .

( قوله : فيرد مثل ما أتلفه ) أي مع رد الباقي كما في القنية ، ونصها قال الغزال : لا معرفة لي بالغزل ، فأتني بغزل أشتريه فأتى رجل بغزل لهذا الغزال ولم يعلم به المشتري ، فجعل نفسه دلالا بينهما واشترى ذلك الغزل له بأزيد من ثمن المثل ، وصرف المشتري بعضه إلى حاجته ، ثم علم بالغبن وبما صنع ، فله أن يرد الباقي بحصته من الثمن قال رضي الله عنه : والصواب أن يرد الباقي ومثل ما صرف في حاجته ، ويسترد جميع الثمن كمن اشترى بيتا مملوءا من بر فإذا فيه دكان عظيم فله الرد وأخذ جميع الثمن قبل إنفاق شيء منه وبعده يرد الباقي ومثل ما أنفق ويسترد الثمن كذا ذكره أبو يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى ا هـ .

قوله : بقي ما لو كان قيميا أي وتصرف ببعضه فهل يرجع بقدر ما غبن فيه أو لا يرجع ، أو يرد الباقي ، [ ص: 144 ] ويضمن قيمة ما تصرف به ، ووجه التوقف أن ما ذكره في القنية مفروض في المثلي ; لأن الغزل مثلي كما هو صريح كلام القنية المذكور آنفا وكذا صرح في الفصل الثالث والثلاثين من جامع الفصولين : بأنه مثلي ، وفي التتارخانية عن المنتقى : ولا يصح بيع غزل قطن لين بغزل قطن خشن إلا مثلا بمثل ; لأن القطن سواء ا هـ فحيث كان المنقول هنا في المثلي لم يعلم حكم القيمي فافهم .

ثم اعلم أن ما قدمناه عن المنح عن تحفة الفقهاء من أن المغبون إذ غر له الرد استدلالا بمسألة المرابحة ، يفيد أن خيار التغرير في حكم خيار الخيانة في المرابحة ، وقد مر في المتن والشرح أنه لو هلك المبيع أو استهلكه في المرابحة قبل رده أو حدث به ما يمتنع من الرد لزمه جميع الثمن المسمى ، وسقط خياره وذكرنا هناك أن مقتضى قوله : أو حدث به إلخ أنه لو هلك البعض أو استهلكه له رد الباقي إلا في نحو الثوب الواحد إلخ ، والظاهر أن هنا كذلك فتأمل . ( قوله : قلت وبالأخير إلى قوله وغيره ) الأولى ذكر هذا عند قوله ، وبه أفتى صدر الإسلام وغيره ا هـ . ح . مطلب الغرور لا يوجب الرجوع إلا في ثلاث مسائل

( قوله : وفي كفالة الأشباه إلخ ) حيث قال : الغرور لا يوجب الرجوع ، فلو قال اسلك هذا الطريق فإنه آمن فسلكه فأخذه اللصوص ، أو قال : كل هذا الطعام فإنه ليس بمسموم ، فأكله ومات لم يضمن ، وكذا لو أخبره رجل أنها حرة فتزوجها ثم ظهر أنها مملوكة فلا رجوع بقيمة الولد على المخبر إلا في ثلاث مسائل الأولى : إذا كان الغرور بالشرط ، كما لو زوجه امرأة على أنها حرة ثم استحقت فإنه يرجع على المخبر بما غرمه للمستحق من قيمة الولد الثانية : أن يكون في ضمن عقد معاوضة ، فيرجع المشتري على البائع بقيمة الولد إذا استحقت بعد الاستيلاد ويرجع بقيمة البناء ، لو بنى المشتري ، ثم استحقت الدار بعد أن يسلم البناء ، وإذا قال الأب لأهل السوق : بايعوا ابني فقد أذنت له في التجارة ، فظهر أنه ابن غيره رجعوا عليه للغرور ، وكذا لو قال بايعوا عبدي فقد أذنت له فبايعوه ولحقه دين ثم ظهر أنه عبد لغيره رجعوا عليه إن كان الأب حرا وإلا فبعد العتق ، وكذا لو ظهر حرا أو مدبرا أو مكاتبا ولا بد في الرجوع من إضافته إليه والأمر بمبايعته ، كذا في السراج الوهاج . الثالثة : أن يكون في عقد يرجع نفعه إلى الدافع كوديعة وإجارة ، فلو هلكت الوديعة والعين المستأجرة ، ثم استحقت وضمن المودع والمستأجر فإنهما يرجعان على الدافع بما ضمناه ، وكذا من كان بمعناهما وفي عارية وهبة لا رجوع إذ القبض كان لنفسه وتمامه في الخانية في فصل الغرور من البيوع ا هـ .

قلت : وعبر في الخانية في الثالثة بالقبض بدل العقد ، وهو الصواب فتدبر . ( قوله : إلا في ثلاث ) زاد في نور العين مسألة رابعة وهي ما إذا ضمن الغار صفة السلامة ، كما إذا قال اسلك هذا الطريق فإنه آمن وإن أخذ مالك فأنا ضامن فإنه يضمن كما سيذكره المصنف آخر الكفالة عن الدرر . ( قوله : منها هذه ) أي مسألة المتن وهي داخلة تحت الثانية الآتية . ( قوله : وضابطها ) أي الثلاث المستثناة . ( قوله : أن يكون في عقد ) صوابه في قبض كما قدمناه عن الخانية ; لأن مسألة العقد تأتي بعد تأمل . ( قوله : رجع ) أي الشخص الذي هو المودع أو المستأجر على الدافع ; لأنه غره بأنه أودعه أو آجره ملكه . ( قوله : لكون القبض لنفسه ) أي نفس المستعير أو الموهوب له ، فكان [ ص: 145 ] هو المنتفع بالقبض دون المعير أو الواهب .

( قوله : أن يكون في ضمن عقد معاوضة ) من بيع صحيح أو فاسد ، وأخرج به عقد التبرعات كالهبة والصدقة ، فإن الغرور لا يثبت الرجوع فيها ط عن البيري ، وكذا أخرج الرهن ; لأنه عقد وثيقة لا معاوضة ، كما يأتي وفي البيري عن المبسوط : إن الغرور في عقد المعاوضات يثبت الرجوع ; لأن العقد يستحق صفة السلامة من العيب ، ولا عيب فوق الاستحقاق فأما بعقد التبرع فلأن الموهوب له لا يستحق الموهوب بصفة السلامة . ( قوله : كبايعوا عبدي إلخ ) أي فيكون ضامنا للدرك فيما يثبت لهم على العبد في عقد المبايعة لحصول التغرير في هذا العقد كما يأتي تقريره ، وبه اندفع ما قيل إن التغرير لم يوجد في ضمن عقد المعاوضة . ( قوله : ثم ظهر حرا أو ابن الغير ) لف ونشر مرتب .

( قوله : إن كان الأب حرا ) الأولى ما في بعض نسخ الأشباه إن كان الآذن حرا لشموله للمولى والأب : أي الأب صورة لا حقيقة ، وهذا القيد لشيء مقدر في قوله رجعوا عليه أي في الحال بقرينة قوله وإلا فبعد العتق . ( قوله : وهذا ) أي الرجوع شرطه شيئان أن يضيف العبد أو الابن إلى نفسه ، وأمرهم بمبايعته فيضمن الأقل من قيمته ومن الدين كما في البيري عن مختصر المحيط . ( قوله : ومنه ) أي من الغرير في ضمن عقد المعاوضة .

( قوله : اشترني فأنا عبد ارتهني ) صوابه : بخلاف ارتهني أي لو قال العبد : اشترني فأنا عبد فاشتراه فإذا هو حر فإن كان البائع حاضرا أو غائبا غيبة معروفة أي يدري مكانه لا يرجع على العبد بما قبضه البائع للتمكن من الرجوع على القابض ، وإن كان لا يدري أين هو رجع المشتري على العبد ورجع العبد على بائعه بما رجع به عليه وإنما يرجع مع أن البائع لم يأمره بالضمان عنه ; لأنه أدى دينه وهو مضطر في أدائه بخلاف من أدى عن آخر دينا بلا أمره والتقييد بقوله : اشترني فأنا عبد ; لأنه لو قال أنا عبد ولم يأمره بالشراء أو قال : اشترني ولم يقل فأنا عبد لا يرجع عليه بشيء ، ولو قال : ارتهني فأنا عبد الراهن لم يرجع على العبد ، ولو الراهن غائبا في ظاهر الرواية عنهم وعن أبي يوسف لا يرجع في البيع والرهن ; لأن الرجوع بالمعاوضة وهي المبايعة هنا أو بالكفالة ، ولم يوجدا هنا بل وجد مجرد الإخبار كاذبا فصار كما لو قال أجنبي لشخص ذلك ولهما أن المشتري شرع في الشراء معتمدا على أمره وإقراره ، فكان مغرورا من جهته والتغرير في المعاوضات التي تقتضي سلامة العوض يحصل سببا للضمان دفعا للغرر بقدر الإمكان ، فكان بتغريره ضامنا لدرك الثمن له عند تعذر رجوعه على البائع كالمولى إذا قال لأهل السوق بايعوا عبدي فإني أذنت له ثم ظهر استحقاق العبد فإنهم يرجعون على المولى بقيمة العبد .

ويجعل المولى بذلك ضامنا لدرك ما ذاب عليه دفعا للغرور عن الناس ، بخلاف الرهن فإنه ليس عقد معاوضة بل عقد وثيقة لاستيفاء عين حقه حتى جاز الرهن ببدل الصرف والمسلم فيه ولو كان عقد معاوضة كان استبدالا به قبل قبضه وهو حرام وبخلاف الأجنبي فإنه لا يعبأ بقوله ، فالرجل هو الذي اغتر ا هـ . ملخصا من الفتح في أول باب الاستحقاق . ( قوله : كما لو زوجه امرأة على أنها حرة ) أي بأن كان وليا أو وكيلا عنها ، وهذا بخلاف ما إذا أخبره بأنها حرة فتزوجها كما مر في عبارة الأشباه .




الخدمات العلمية