الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 79 ] باب ما يجوز من الإجارة وما يكون خلافا فيها [ ص: 80 ] قال : ( ويجوز استئجار الدور والحوانيت للسكنى وإن لم يبين ما يعمل فيها ) ; لأن العمل المتعارف فيها السكنى فينصرف إليه ، [ ص: 81 ] وأنه لا يتفاوت فصح العقد ( وله أن يعمل كل شيء ) للإطلاق ( إلا أنه لا يسكن حدادا ولا قصارا ولا طحانا ; لأن فيه ضررا ظاهرا ) ; لأنه يوهن البناء فيتقيد العقد بما وراءها دلالة .

التالي السابق


( باب ما يجوز من الإجارة وما يكون خلافا فيها ) . قال في النهاية ومعراج الدراية : لما ذكر مقدمات الإجارة ذكر في هذا الباب ما هو المقصود منها وهو بيان ما يجوز من عقود الإجارة وما لا يجوز منها انتهى . أقول : فيه نوع خلل ; لأنه لم يذكر في هذا الباب ما لا يجوز من الإجارة وإنما ذكر ذلك [ ص: 80 ] في باب آخر آت عقيب هذا الباب وهو باب الإجارة الفاسدة ، بل إنما ذكر في هذا الباب ما يجوز من الإجارة ، وما يكون خلافا فيها من المستأجر للمؤجر كما وقع في عنوان الباب . وقال في غاية البيان ، والعناية : لما فرغ من ذكر الإجارة وشرطها ووقت استحقاق الأجرة ذكر هنا ما يجوز من الإجارة بإطلاق اللفظ وتقييده ، وذكر أيضا من الأفعال ما يعد خلافا من الأجير للمؤجر وما لا يعد خلافا انتهى . أقول : فيه أيضا شيء فتأمل ( قوله : ويجوز استئجار الدور ، والحوانيت للسكنى ، وإن لم يبين ما يعمل فيها ) قال تاج الشريعة : قوله : للسكنى صلة الدور ، والحوانيت لا صلة الاستئجار : يعني ويجوز استئجار الدور ، والحوانيت المعدة للسكنى لا أن يقول زمان العقد استأجرت هذه الدار للسكنى ; لأنه لو نص هكذا وقت العقد لا يكون له أن يعمل فيها غير السكنى ، والتعليل يدل على ما ذكرت . انتهى كلامه .

ومال أكثر الشراح إلى سمته في تصوير هذه المسألة ، غير أن صاحب الغاية بعد أن ذكر ذلك المعنى وصححه قال : ويجوز أن يتعلق قوله : للسكنى بالاستئجار : أي يجوز استئجار الدور ، والحوانيت لأجل السكنى ، وإن لم يبين ما يعمل فيها ، وله أن يعمل كل شيء لا يوهن البناء ولا يفسده ، وهو الظاهر من كلام القدوري ، إلى هنا كلامه . أقول : فيما قال تاج الشريعة كلام . أما أولا فلأنه لو كان قوله : للسكنى صلة الدور ، والحوانيت وكان المعنى ويجوز استئجار الدور ، والحوانيت المعدة للسكنى لم يظهر للتقييد بقوله للسكنى فائدة أصلا ; لأنه إما أن يقصد به الاحتراز عن الدور ، والحوانيت الغير المعدة للسكنى ، أو يقصد به مجرد بيان حال الدور ، والحوانيت بأنها معدة للسكنى ، فإن كان الأول فمع عدم تحقق دار أو حانوت لم يعد للسكنى في الخارج لم يصح الاحتراز ، إذ الظاهر أن الحكم في استئجار كل دار وحانوت ما ذكر في الكتاب وهو الجواز ، وإن كان الثاني فهو من قبيل اللغو ، فإن كون الدور ، والحوانيت مما يعد للسكنى غني عن البيان غير خفي على أحد . وأما ثانيا فلأن قوله لو نص هكذا وقت العقد لا يكون له أن يعمل فيها غير السكنى ممنوع ; لأنه لو نص وقت العقد على استئجار الدور ، والحوانيت لأجل السكنى وعمل فيها غير السكنى مما هو أنفع للبناء من السكنى ينبغي أن يجوز ; لأن التقييد فيما لا يتفاوت غير معتبر على ما صرحوا به ، ولهذا إذا شرط سكنى واحد فله أن يسكن غيره كما سيأتي في الكتاب ، ففيما هو أنفع مما شرط وقت العقد أولى أن لا يعتبر التقييد .

ثم الإنصاف أنه لو لم يقع في عبارة مختصر القدوري قيد للسكنى في وضع هذه المسألة كما لم يقع في عبارة عامة معتبرات المتون لكان أولى وأحسن كما لا يخفى . ( قوله : لأن العمل المتعارف فيها السكنى فينصرف إليه ) ورد عليه صاحب الإصلاح ، والإيضاح كما رد على صدر الشريعة حيث قال : لا ; لأن العمل المتعارف فيها السكنى فينصرف إليه لا يتفاوت فصح العقد ; لأنه لا ينتظمه قوله : وله أن يعمل كل شيء سوى موهن البناء ، بل لأن الأصل أن كل عمل لا يضر البناء يستحقه بمطلق العقد . انتهى كلامه . أقول : ليس شيء من شطري كلامه بسديد . أما شطره الأول فلأن مراد المصنف وغيره أن العرف يصرف مطلق العمل إلى السكنى ، وبعد ذلك تبقى أعمال السكنى على إطلاقها ، فله أن [ ص: 81 ] يعمل كل شيء منها لهذا الإطلاق سوى ما يوهن البناء لتحقق الضرر الظاهر فيه . ولا منافاة بين القول بصرف العرف مطلق العمل إلى أعمال السكنى وبين القول بأن له أن يعمل كل شيء من أعمال السكنى لإطلاق عمل السكنى نظرا إلى أنواعه وأصنافه وعدم التفاوت فيه فلا غبار عليه في التعليل الذي ذكره المصنف وغيره .

وأما شطره الثاني فلأنه لو كان الأصل أن كل عمل لا يضر البناء يستحقه مستأجر الدور ، والحوانيت بمطلق العقد بدون المصير إلى أن المتعارف فيها هو السكنى لزم أن يستحق العمل الذي ليس من جنس السكنى أيضا ولم يقل به أحد ، بل صرحوا في عامة المعتبرات بأنه مصروف بالعرف إلى عمل السكنى ، وهو لا يتفاوت فيصح العقد من غير بيان ، وقالوا : إن هذا استحسان . وفي القياس لا يصح ; لأن مطلق العمل ، والانتفاع يتناول عمل السكنى وغيره فيتفاوت فلا يكون بد من البيان للجهالة المفضية إلى النزاع كما في استئجار الأراضي للزراعة . ( قوله : وأنه لا يتفاوت فصح العقد ) قال صاحب العناية : هذا جواب عما عسى أن يقال سلمنا أن السكنى متعارف ، ولكن قد تتفاوت السكان فلا بد من بيانه . وقال بعض الفضلاء : لا مساس لهذا السؤال بالمقام ، إذ الكلام في عدم وجوب بيان ما يعمل فيها لا في بيان من يسكن انتهى . أقول : لعل لفظ السكان في كلام صاحب العناية وقع سهوا من الكاتب بدلا من لفظ السكنى ، فحينئذ مساس السؤال بالمقام ظاهر . وأما على ما وقع في النسخ المشهورة فالمراد لكن قد تتفاوت السكنى بتفاوت السكان في العمل فلا بد من بيان ما يعمل فيها ، ولما كان تفاوت السكان في العمل سببا لتفاوت نفس العمل الذي هو السكنى اكتفى بذكر تفاوت السكان قصرا للمسافة ، ويرشد إليه قوله : ووجهه : يعني وجه الجواب أن السكنى لا تتفاوت ، وما لا يتفاوت لا يشتمل على ما يفسد العقد فيصح . انتهى .

حيث قال إن السكنى لا تتفاوت ، ولم يقل إن السكان لا يتفاوتون ، تدبر ترشد . وقال الشارح العيني : وفي بعض النسخ : ولأنه لا يتفاوت ، وهكذا صححه صاحب العناية ولهذا قال : هذا جواب عما عسى أن يقال سلمنا أن السكنى متعارف إلخ . أقول : كلامه ليس بصحيح . أما أولا فلأن صاحب العناية لم يصحح تلك النسخة بل لم يتعرض لها قط . وأما ثانيا فلأن جعل صاحب العناية قول المصنف هذا جوابا عن سؤال مقدر لا يدل على نسخة ، ولأنه بل يأباها إذ مقتضى هذه النسخة أن يكون قول المصنف هذا دليلا آخر مستقلا ، والذي يكون جوابا عن سؤال مقدر إنما يكون من متممات ما قبله فلم يصح قوله : ولهذا قال هذا جواب عما عسى أن يقال إلخ ، وإن أراد أن المذكور في لفظ العناية بصدد الشرح عبارة هذه النسخة لا غير فليس كذلك أيضا ، بل المذكور فيما رأيناه من نسخ العناية عبارة وأنه بدون اللام .

( قوله : لأن فيه ضررا ظاهرا ; لأنه يوهن البناء فيتقيد العقد بما وراءها دلالة ) أقول : لقائل أن يقول : الظاهر من هذا الكلام أن أعمال [ ص: 82 ] السكنى تتفاوت فبعض منها لا يوهن البناء وبعض آخر منها يوهنه كالأمثلة المذكورة فصار مخالفا لقوله فيما مر آنفا ، وأنه يعني السكنى لا يتفاوت . ويمكن أن يقال إن معنى قوله السابق أنه لا يتفاوت غالبا فالذي يضر البناء ويوهنه خارج عن العقد بدلالة الحال ، وذلك القسم الغالب باق على حاله فله أن يعمل من ذلك ما شاء فتأمل .




الخدمات العلمية