الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ أو ] لأحد الشيئين أو الأشياء شاكا كان أو إبهاما تخييرا كان أو إباحة

                                                      [ ص: 174 ] فإن كانا مفردين أفادا ثبوت الحكم لأحدهما ، وإن كانا جملتين أفاد حصول مضمون أحدهما ، ولذلك يفرد ضميرهما نحو زيد أو عمرو قام ، ولا تقل : قاما . بخلاف الواو فتقول : زيد وعمرو قاما ، ولا تقل : قام . وحقيقتها أنها تفرد شيئا من شيء ، ووجوه الإفراد تختلف فتتقارب تارة ، وتتباعد أخرى حتى توهم أنها قد تضادت ، وهي في ذلك ترجع إلى الأصل الذي وضعت له ، وقد وضعت للخبر والطلب ، فأما في الخبر فمعناها الأصلي قيام الشك ، فقولك : زيد أو عمرو قام ، أصله أن أحدهما قام . ثم أكثر استعماله أن يكون المتكلم شاكا لا يدري أيهما القائم ، فظاهر الكلام أن يحمله السامع على جهل المتكلم ، وقد يجوز أن يكون المتكلم غير شاك ، ولكنه أبهم على السامع لغرض . ويسمى الأول الشك ، والثاني التشكيك والإبهام أيضا ، ومنه قوله تعالى : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } . وكذلك جاءت في خبر الله ، نحو { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } { فكان قاب قوسين أو أدنى } فإن قلت : كيف يقع الإبهام من الله ، وإنما القصد منه البيان ؟ قلت : إنما خوطبوا على قدر ما يجري في كلامهم ، ولعل الإبهام على السامع لعجزه عن بلوغ حقائق الأشياء ، ومن ثم قيل : القصد من الإبهام في الخبر تهويل الأمر على المخاطب من إطلاقه على حقيقته ، وحملها على ذلك [ ص: 175 ] المعنى هو من صناعة الحذاق ، وذلك أولى من إخراجها إلى معنى الواو .

                                                      وبالجملة ، الإخبار بالمبهم لا يخلو ، عن غرض إلا أن المتبادر منه الشك ، فمن هنا ذهب قوم إلى أن " أو " للشك .

                                                      والتحقيق : أنه لا خلاف ; لأنهم لم يريدوا إلا تبادر الذهن إليه عند الإطلاق ، وما ذكروه من أن وضع الكلام للإبهام على تقدير تمامه إنما يدل على أن " أو " لم توضع للتشكيك ، وإلا فالشك أيضا مبني يقصد إبهامه بأن يقصد المتكلم إخبار المخاطب بأنه شاك في تعيين أحد الأمرين بخلاف الإنشاء ، فإنه لا يحتمل الشك ولا التشكيك ; لأنه إثبات الكلام ابتداء . وقد يحسن دخول " أو " بين أشياء يتناولها الفعل في أوقات مختلفة فيراد بالخبر إفراد كل واحدة منها في وقته ، كقولك : إذا قيل لك : ما كنت تأكل من الفاكهة ؟ قلت : آكل التين أو العنب أو الرمان . أي إفراد هذا مرة وهذا مرة ، ولم ترد الشك ولا الإبهام هذا شأنها في الخبر . وأما في الطلب أعني الأمر والنهي فتقع على وجهين كلاهما للإفراد : أحدهما : أن يكون له أحد الأمرين إذا اختاره ولا يتجاوزه ، والآخر محظور عليه .

                                                      والثاني : يكون اختيار كل منهما غير محظور عليه الآخر ، وسموا الأول تخييرا والثاني إباحة وفرقوا بينهما بأنه إن كان بين شيئين يمتنع الجمع بينهما فهي للتخيير وإلا فللإباحة .

                                                      فالأول : نحو خذ من مالي درهما أو دينارا حيث يكون مقصوده أن [ ص: 176 ] يأخذوا واحدا فقط ، ولا يجمع بينهما ، أو لما يقتضيه حظر مال غيره عنه إلا بسبب تصحح به إباحته له ، والسبب هنا تخيير المأمور باجتنابه ، فقد أباحه بالتخيير أحدهما لا بعينه . فأيهما اختار كان هو المباح ، ويبقى الآخر على حظره ، وكذلك كل سمكا أو لبنا لدلالة القرينة على المنع من الجمع . والثاني : نحو جالس الحسن أو ابن سيرين ، أي : جالس هذا الجنس من العلماء فله الجمع بينهما ، وكذلك تعلم فقها أو نحوا . قال سيبويه : تقول : جالس الحسن أو ابن سيرين أو زيدا ، كأنك قلت : جالس أحد هؤلاء ، ولم ترد إنسانا بعينه ، ففي هذا دليل على أن كلهم أهل أن يجالس ، كأنك قلت : جالس هذا الضرب من الناس . وتقول : كل خبزا أو لحما أو تمرا فكأنك قلت : كل أحد هذه الأشياء فهذا بمنزلة الذي قبله . انتهى . واعلم أن " أو " من حيث هي تدل على الشيئين أو الأشياء مثل " إما " . وينفصل التخيير عن الإباحة بالقرينة وسياق الكلام ، وهي تساوي " إما " في التخيير التي يسميها المنطقيون : منفصلة مانعة الجمع ، وفي الإباحة : منفصلة مانعة الخلو . وما ذكروه من أن الشيئين إن كانا أصلهما على المنع فللتخيير ، وإلا فللإباحة إنما أخذوه من أمثلتهم . حتى مثلوا الأول ب خذ درهما أو دينارا ، والثاني يجالس الحسن أو ابن سيرين . وليس هذا بمطرد فقد تقول له : جالس أحدهما وتقصد المنع من الجمع .

                                                      وقد يأذن له في أخذ شيء من ماله ويرضى بالجمع . وإنما المعتمد في الفرق القرائن كما ذكرنا ولذلك أجمعوا على أن " أو " [ ص: 177 ] في آية الكفارة للتخيير ، ويسمونها الواجب المخير مع أنه لا يمتنع الجمع ، وبهذا يندفع السؤال بالآية عندهم ، ولا حاجة للتكلف عن ذلك . والتحقيق : أن التخيير والإباحة قسم واحد ; لأن حقيقة الإباحة هي التخيير ، وإنما امتنع الجمع في الدينار والدرهم للقرينة العرفية لا لمدلول اللفظ ، كما أن الجمع بين صحبة العلماء والزهاد وصف كمال لا نقص فيه . قال ابن الخشاب : معناها الأصلي في الطلب التخيير ، وأما الإباحة فطارئة عليه وليست فيه خارجة عن وضعها ; لأنه إذا أفرد أحدهما بالمجالسة كان ممتثلا ، ولما كانت مجالسة كل منهما في مجالسة الآخر ساغ له الجمع بينهما ، وكأنه قال : أبحت لك مجالسة هذا الضرب . وكذلك لو أتى بالواو ، فقال : جالس الحسن وابن سيرين لم يتمثل إلا بالجمع بينهما . فاعرف الفرق بينهما .

                                                      وهذا أولى من قول السيرافي : " أو " التي للإباحة معناها معنى واو العطف ، والتسوية ؟ نسبت للإباحة لما بينهما من المضارعة ، ولهذا قالوا : سواء علينا قيامك وقعودك ، وسواء علي قيامك أو قعودك . وما أحسن قول الجرجاني في كتاب " العوامل " : " أو " توجب الشركة على سبيل الجواز ، والواو على سبيل الوجوب . قال : وحيث أريد بها الإباحة فلا بد من أن يكون المراد جنسا مخصوصا فلا يصح كل السمك أو اشرب اللبن ، أو اضرب زيدا أو عمرا إلا أن يراد بهما أنهما مثلان في الشرب واستحقاق الضرب .

                                                      وذلك راجع إلى اتحاد الجنس . وكذلك كل صيحانيا أو برنيا قال : وإذا أمعنت النظر لم تجد " أو " زائلة عن معناها الأصلي ، وهو كونها لأحد الشيئين أو الأشياء . انتهى .

                                                      [ ص: 178 ] ولا بد هاهنا من استحضار أن التخيير لا يكون إلا بين مباحين لا مباح ومحظور . إذا علمت معنى الإباحة في قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ، وكان ذلك في الأمر وفيما خير فيه بين مباحين أحدهما بمعنى الآخر ، فبإزاء ذلك النهي التضمني ، التخيير بين الإيقاع من كل واحد من محظورين أحدهما في معنى الآخر في الحظر ، وذلك كقولهم : لا تأت زنى أو قتل نفس وقوله تعالى { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } ; لأنه يجب ترك طاعة كل منهما مفردين ومجتمعين ، وكأنه قال : حظرت عليك طاعة هذا الضرب من الناس ; إذ كان ترك كل منهما في المعنى ترك طاعة الآخر ، كما كانت الإباحة في مجالسة الحسن أو ابن سيرين كذلك . وأما قول سيبويه : لو قال : " أو لا تطع كفورا " لانقلب المعنى ، فصحيح وذلك . أنه إنما يكون للإباحة أو التخيير بالمعنى السابق في قضية واحدة ، فإذا قال : " أو لا تطع كفورا " صارت في أثناء قضيتين الثانية منهما التي تلي " أو " غير الأولى التي قبلها ، فتخرج بذلك إلى معنى " بل " إذا كانت " بل " لا ترد في أثناء قضية واحدة ، وصارت " أو " بمعنى الإضراب ، وحينئذ يكون أضرب عن النهي عن طاعة الآثم وانتقل إلى النهي عن طاعة الكفور . وهذا قلب للمعنى المراد من الآية من ترك طاعتهما أو منفردين .

                                                      والحاصل : أن النهي إذا دخل على " أو " التي للإباحة حظر الكل جملة وتفصيلا كما في : لا تتعلم الشعر أو أحكام النجوم ، فهي نهي جمعا وإفرادا كما كان له في الأمر في الإباحة فعلهما جمعا وإفرادا ، وإذا دخل على " أو " التي للتخيير كقولك : لا تأخذ درهما أو دينارا فالأشبه في أنه يجب عليه الامتناع من أحدهما . قالوا : فأما الجمع بينهما ففيه نظر هل يكون مطيعا أو عاصيا ؟ قال : ابن الخشاب : وجه النظر أن التخيير الذي كان في الأمر هل هو [ ص: 179 ] باق في النهي أم لا ؟ لأن النهي في الأمر بمنزلة النفي من الإيجاب في الخبر ، وقد يتناول النفي الكلام الموجب فينفيه بمعناه ، وقد لا يكون كذلك في مواضع تنازعها العلماء وقصدت فيها رأي المحققين منهم . وكذلك النهي حكمه في تناول المأمور به حكم تناول النفي الموجب ، فإن كان التخيير الذي كان في الأمر باقيا مع النهي بحاله لم يكن المنهي الجمع بين الأمرين ، وإن لم يكن باقيا فالأمر بخلاف ذلك . وقال أبو بكر الرازي في " أصوله " : " أو " تتناول واحدا مما دخلت عليه لا جميعه ، كقوله تعالى { أو كسوتهم أو تحرير رقبة } فهذا في الإثبات ، وأما في النفي فهي تتناول كل واحد على حياله ، كقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } وقوله : { أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } ففي كل واحد على حياله لا على تعين الجمع ; ولهذا قال أصحابنا فيمن قال والله لا أكلمن زيدا أو عمرا : إنه يحنث بكلام أيهما وقع . وحكى السيرافي في " شرح سيبويه " أن المزني من أصحاب الشافعي سئل عن رجل حلف : والله لا كلمت أحدا إلا كوفيا أو بصريا . فقال : ما أراه إلا حانثا .

                                                      فذكر ذلك لبعض الحنفية ، فقال : خالف الكتاب والسنة . أما الكتاب فقوله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا } إلى قوله { إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } وكل ذلك ما كان مباحا خارجا بالاستثناء من التحريم . وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام : { لقد هممت أن لا أقبل هدية [ ص: 180 ] إلا من قرشي أو ثقفي } فالقرشي والثقفي جميعا مستثنيان ، فرجع المزني إلى قوله . ويرد على ما قرره في النفي ما ذكره الزمخشري في قوله تعالى : { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } يعني أن مجرد الإيمان بدون العمل لا ينفع ولا يحمل على عموم النفي أي : أنه لا ينفع الإيمان حينئذ النفس التي لم تقدم الإيمان ولا كسبت الخير في الإيمان ; لأنه إذا نفي الإيمان كان نفي كسب الخير في الإيمان تكرارا فيجب حمله على نفي العموم أي : النفس التي لم تجمع بين الإيمان والعمل الصالح . تنبيه " أو " : لها استعمالان في التخيير : أحدهما : أن يستوي طرفاه عند المأمور ولا يؤمر فيه باجتهاد ، كآية الكفارة . الثاني : أن يكون مأمورا فيه بالاجتهاد ، كقوله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } فإن الإمام يتخير في الأسير تخير اجتهاد ومصلحة لا تشه .

                                                      [ ص: 181 ] وقد تدخل " أو " للتبعيض والتفصيل ، وهو أن يذكر عن جماعة قولين مختلفين على أن بعضهم قال أحد القولين ، وبعضهم قال القول الآخر ، كقولك : أجمع القوم ، فقالوا : حاربوا أو صالحوا أي : قال بعضهم حاربوا . وقال بعضهم صالحوا ومنه قوله تعالى { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } وقد علم أنه ليس في الفرق فرقة تخير بين اليهودية والنصرانية ، وإنما هو إخبار عن جملة اليهود والنصارى أنهم قالوا ، ثم فصل ما قاله كل منهم . واحتج بعض المالكية في تخيير الإمام في عقوبة قاطع الطريق بقوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية وأنكر غيره التخيير في الآية . واختار السيرافي أن " أو " فيها من هذا الباب للتفصيل وترتيب اختيار هذه العقوبات على أصناف المحاربين كالآية السابقة على أن بعضا وهم الذين قتلوا يقتلون ، وبعضا وهم الذين أخذوا تقطع أيديهم وأرجلهم ، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة . وقد تستعار " أو " إذا وقع بعدها مضارع منصوب ، نحو لألزمنك حتى تعطيني ، ولهذا قال النحاة : إنها بمعنى " إلى " لأن الفعل الأول يمتد إلى وقوع الثاني ، أو يمتد في جميع الأوقات إلى وقت وقوع الثاني بعده فينقطع امتداده . وقد مثل بقوله تعالى { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم } أي : حتى تقع توبتهم أو تعذيبهم . وذهب الزمخشري إلى أنه عطف على ما سبق ، و { ليس لك من الأمر شيء } اعتراض . والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم ، فإما أن يهلكهم أو [ ص: 182 ] يهزمهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم .

                                                      فلو قال : والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل تلك - بالنصب - كان بمعنى " حتى " . وما يقال من أن تقدير العطف من جهة أن الأول منفي ليس بمستقيم ; إذ لا امتناع في العطف المثبت على المنفي وبالعكس ، وبهذا يظهر أن " أو " في قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } عاطفة مقيدة للعموم أي : عدم الجناح مقيد بانتفاء الأمرين . أعني المجامعة وتقرير المهر حتى لو وجد أحدهما كان الجناح . أي : وجب المهر ، فيكون { تفرضوا } مجزوما عطفا على { تمسوهن } . ولا حاجة إلى ما ذهب إليه صاحب الكشاف من أنه منصوب بإضمار " أن " على معنى إلى أن تفرضوا ، أو حتى تفرضوا . أي : إذا لم توجد المجامعة فعدم الجناح يمتد إلى تقرير المهر .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية