الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب ، ونبه تعالى بقوله : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم ) على المجازاة . وأخبر أن بعضهم من بعض في أصل التوالد ، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل ، وتفرع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف ، ولينبه بذلك على أن أصل الجنس الإنساني كان عابدا لله مفرده بالتوحيد والتقوى ، طائعا له ، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه . فنادى تعالى دعاء عاما للناس ، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر ، وجعل سببا للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة . ومن كان قادرا على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأن يتقى . ونبه بقوله : من نفس واحدة ، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض ، وإلفه له دون غيره ، ليتألف بذلك عباده على تقواه . والظاهر في الناس : العموم ؛ لأن الألف واللام فيه تفيده ، وللأمر بالتقوى وللعلة ، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان . وقيل : المراد بالناس أهل مكة ، كأن صاحب هذا القول ينظر إلى قوله : ( تساءلون به والأرحام ) لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك . يقول : أنشدك بالله وبالرحم . وقيل : المراد المؤمنون نظرا إلى قوله : ( إنما المؤمنون إخوة ) وقوله : ( المسلم أخو المسلم ) والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بـ ( ياأيها الناس ) ، وكان للكفرة فقط ، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية [ ص: 154 ] والربوبية ؛ لأنهم غير عارفين بالله ، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا ، نحو : ( يا أيها الناس إن وعد الله حق ) ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) وإذا كان الخطاب للمؤمنين ؛ أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية .

قيل : وجعل هذا المطلع مطلعا لسورتين : إحداهما : هذه ، وهي الرابعة من النصف الأول . والثانية : سورة الحج ، وهي الرابعة من النصف الثاني . وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد . وبدأ بالمبدأ بأنه الأول ، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامة فيما يتقى من موجب العقاب ، ولذلك فسر باجتناب ما جاء فيه الوعيد . وقيل : يجوز أن يكون أراد بالتقوى تقوى خاصة ، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله . فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض ولبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه . وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة .

وقال ابن عباس : المراد بالتقوى الطاعة . وقال مقاتل : الخشية . وقيل : اجتناب الكبائر والصغائر . والمراد بقوله : من نفس واحدة - آدم . وقرأ الجمهور : ( واحدة ) بالتاء على تأنيث لفظ النفس . وقرأ ابن أبي عبلة : ( واحد ) على مراعاة المعنى ، إذ المراد به آدم ، أو على أن النفس تذكر وتؤنث ، فجاءت قراءته على تذكير النفس . ومعنى الخلق هنا : الاختراع بطريق التفريع ، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر :


إلى عرق الثرى وشجت عروقي وهذا الموت يسلبني شبابي



قال : في ري الظمآن ، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي يرجع إليه ، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع . وعلى أنا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية ، وإلا لقال : أخرجكم من نفس واحدة ، فأضاف خلقنا إلى آدم ، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلت بمن اتصل به من أولاده ، ولكنه الأصل ، انتهى . وقالالأصم : لا يدل العقل على أن الخلق مخلوقين من نفس واحدة ، بل السمع . ولما كان أميا ما قرأ كتابا ، كان معنى ( خلقكم ) دليلا على التوحيد ، ومن نفس واحدة دليلا على النبوة . انتهى .

وفي قوله : من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر ، لتعريفه إياهم بأنهم من أصل واحد ، ودلالة على المعاد ؛ لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى . و ( زوجها ) : هي حواء . وظاهر منها ابتداء خلق حواء من نفسه ، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه ، وبه قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، والسدي ، قالوا : إن الله تعالى خلق آدم وحشا في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله . وقيل : من يمينه ، فخلق منها حواء . قال ابن عطية : ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام : ( إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ) . انتهى . ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التمثيل لاضطراب أخلاقهن ، وكونهن لا يثبتن على حالة واحدة ، أي : صعبات المراس ، فهي كالضلع العوجاء كما جاء خلق الإنسان من عجل . ويؤيد هذا التأويل قوله : إن المرأة ، فأتى بالجنس ولم يقل : إن حواء . وقيل : هو على حذف مضاف ، التقدير : وخلق من جنسها زوجها ، قاله ابن بحر وأبو مسلم لقوله : ( من أنفسكم أزواجا ) و ( رسولا منهم ) . قال القاضي : الأول أقوى ، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة . ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة ( من ) لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم ، صح أن يقال ( خلقكم من نفس واحدة ) . ولما كان قادرا على خلق آدم من التراب كان قادرا على خلق حواء أيضا [ ص: 155 ] كذلك . وقيل : لا حذف ، والضمير في ( منها ) ، ليس عائدا على نفس ، بل هو عائد على الطينة التي فصلت عن طينة آدم . وخلقت منها حواء ، أي أنها خلقت مما خلق منه آدم . وظاهر قول ابن عباس ومن تقدم : أنها خلقت و آدم في الجنة ، وبه قال ابن مسعود . وقيل : قبل دخوله الجنة ، وبه قال كعب الأحبار ، و وهب ، وابن إسحاق . وجاءت الواو في عطف هذه الصلة على أحد محاملها ، من أن خلق حواء كان قبل خلق الناس . إذ الواو لا تدل على ترتيب زماني كما تقرر في علم العربية ، وإنما تقدم ذكر الصلة المتعلقة بخلق الناس ، وإن كان مدلولها واقعا بعد خلق حواء ؛ لأجل أنهم المنادون المأمورون بتقوى ربهم . فكان ذكر ما تعلق بهم أولا آكد ، ونظيره : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) ومعلوم أن خلقهم تأخر عن خلق من قبلهم . ولكنهم لما كانوا هم المأمورين بالعبادة والمنادين لأجلها ، اعتنى بذكر التنبيه على إنشائهم أولا ، ثم ذكر إنشاء من كان قبلهم . وقد تكلف الزمخشري في إقرار ما عطف بالواو متأخرا عن ما عطف عليه ، فقدر معطوفا عليه محذوفا متقدما على المعطوف في الزمان ، فقال : يعطف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه . والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء من ضلع من أضلاعها . ولا حاجة إلى تكلف هذا الوجه مع مساغ الوجه الذي ذكرناه على ما اقتضته العربية . وقد ذكر ذلك الوجه الزمخشري فقال : يعطف على ( خلقكم ) . ويكون الخطاب في : ( ياأيها الناس ) الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمعنى : خلقكم من نفس آدم ؛ لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حواء . انتهى . ويجوز أن يكون قوله : وخلق منها زوجها معطوفا على اسم الفاعل الذي هو ( واحدة ) التقدير من نفس وحدت ، أي انفردت . وخلق منها زوجها ، فيكون نظير ( صافات ويقبضن ) وتقول العرب : وحد يحد وحدا ووحدة ، بمعنى انفرد .

ومن غريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح المذكورة فيما قيل أنه قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا وكذا سنة ) وعنى بزوجها البدن ، وعنى بالخلق التركيب . وإلى نحوه أشار بقوله تعالى : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) وقوله : ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ) ولا يصح ذلك في النبات إلا على معنى التركيب . وبدأ بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من تركيب ، والواحد في الحقيقة ليس إلا الله تعالى . انتهى . وهذا مخالف لكلام المتقدمين ، قال بعضهم : ونبه بقوله : وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها ، لكونها بعضه . وبث منهما أي من تلك النفس وزوجها ، أي : نشر وفرق في الوجود . ويقال : أبث الله الخلق ، رباعيا ، وبث ، ثلاثيا ، وهو الوارد في القرآن رجالا كثيرا ونساء قيل : نكر لما في التنكير من الشيوع ولم يكتف بالشيوع حتى صرح بالكثرة وقدم الرجال لفضلهم على النساء ، وخص ( رجالا ) بذكر الوصف بالكثرة ، فقيل : حذف وصف الثاني لدلالة وصف الأول عليه ، والتقدير : ونساء كثيرة . وقيل : لا يقدر الوصف وإن كان المعنى فيه صحيحا ، لأنه نبه بخصوصية الرجال بوصف الكثرة ، على أن اللائق بحالهم الاشتهار والخروج والبروز ، واللائق بحال النساء الخمول والاختفاء . وفي تنويع ما خلق من آدم وحواء إلى رجال ونساء دليل على انتفاء الخنثى ، إذ حصر ما خلق في هذين النوعين ، فإن وجد ما ظاهره الإشكال فلا بد من صيرورته إلى هذين النوعين . وقرئ : ( وخالق منها زوجها وباث ) على اسم الفاعل ، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق .

التالي السابق


الخدمات العلمية