الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم فرع على الأصل الأول بقوله [ ص: 174 ] فحرم بيع كيلي ووزني بجنسه متفاضلا ولو غير مطعوم ) خلافا للشافعي ( كجص ) كيلي

( وحديد ) وزني ثم اختلاف الجنس يعرف باختلاف الاسم الخاص واختلاف المقصود كما بسطه الكمال ( وحل ) بيع ذلك ( متماثلا ) لا متفاضلا ( وبلا معيار شرعي ) فإن الشرع لم يقدر المعيار بالذرة وبما دون نصف صاع ( كحفنة بحفنتين ) وثلاث وخمس [ ص: 175 ] ما لم يبلغ نصف صاع ( وتفاحة بتفاحتين وفلس بفلسين ) أو أكثر ( بأعيانهما ) لو أخره لكان أولى لما في النهر أنه قيد في الكل ، فلو كانا غير معينين أو أحدهما لم يجز اتفاقا ( وتمرة بتمرتين ) وبيضة ببيضتين وجوزة بجوزتين وسيف بسيفين ودواة بدواتين وإناء بأثقل منه ما لم يكن من أحد النقدين فيمتنع التفاضل ، فتح ، وإبرة بإبرتين ( وذرة من ذهب وفضة مما لا يدخل تحت الوزن بمثليها ) فجاز الفضل لفقد القدر ، وحرم النساء لوجود الجنس حتى لو انتفى كحفنة بن بحفنتي شعير فيحل مطلقا لعدم العلة وحرم الكل محمد [ ص: 176 ] وصحح كما نقله الكمال .

التالي السابق


( قوله متفاضلا ) أي ونسيئة وتركه لفهمه لزوما فإنه كلما حرم الفضل حرم النساء ولا عكس وكلما حل النساء حل الفضل ولا عكس ( قوله خلافا للشافعي ) فإنه جعل العلة الطعم والثمنية فما ليس بمطعوم ولا ثمن فليس بربوي ( قوله كيلي ) قيد به احترازا عما إذا اصطلح الناس على بيعه جزافا فإن التفاضل فيه جائز ، ومثله قوله وزني فإنه احتراز عما إذا لم يتعارفوا وزنه أو عن بعض أنواعه كالسيف ا هـ ح أي فإن السيف خرج بالصنعة عن كونه وزنيا فيحل بيعه بجنسه متفاضلا بشرط الحول كما مر ( قوله ثم اختلاف الجنس إلخ ) الأولى ذكر هذا عند قوله قبله وإن عدما إلخ لأنه لا ذكر هنا لاختلاف الجنس إلا أن يقال : إن قوله بجنسه يستدعي معرفة ما يختلف به الجنس ليعلم ما يتحد به .

( قوله كما بسطه الكمال ) حيث قال بعدما تقدم فالحنطة والشعير جنسان ، خلافا لمالك لأنهما مختلفان اسما ومعنى وإفراد كل عن الآخر في قوله صلى الله عليه وسلم ( { الحنطة بالحنطة والشعير بالشعير } ) يدل عليه وإلا قال الطعام بالطعام والثوب الهروي والمروي جنسان لاختلاف صنعة الثوب بها وكذا المروي المنسوج ببغداد وخراسان واللبد الأرمني والطالقاني جنسان والتمر كله جنس واحد والحديد والرصاص والشبة أجناس ، وكذا غزل الصوف والشعر ولحم البقر والضأن والمعز والألية واللحم وشحم البطن أجناس ودهن البنفسج والجيري جنسان والأدهان المختلفة أصولها أجناس ، ولا يجوز بيع رطل زيت غير مطبوخ برطل مطبوخ مطيب لأن الطيب زيادة أ هـ ملخصا ، وسيذكر الشارح أن الاختلاف باختلاف الأصل أو المقصود أو بتبدل الصفة ويأتي بيانه ( قوله متماثلا ) الشرط تحقق ذلك عند العقد ففي الفتح لو تبايعا مجازفة ثم كيلا بعد ذلك ، فظهرا متساويين لم يجز خلافا لزفر ، لأن العلم بالمساواة عند العقد شرط الجواز ا هـ .

لكن ذكر في البحر أول كتاب الصرف عن السراج : لو تبايعا ذهبا بذهب أو فضة بفضة مجازفة لم يجز فإن علم التساوي في المجلس وتفرقا عن قبض صح ا هـ فيحمل الأول على ما إذا علم التساوي بعد المجلس تأمل ( قوله لا متفاضلا ) صرح به وإن علم بالمقابلة بما قبله إشارة إلى أن المراد التماثل في القدر فقط لما قدمه في البيع الفاسد من أنه لا يصح بيع درهم بدرهم استويا وزنا وصفة لكونه غير مفيد تأمل ( قوله وبلا معيار شرعي ) قال في الفتح : لما حصروا المعرف في الكيل والوزن أجازوا ما لا يدخل تحت الكيل مجازفة كتفاحة بتفاحتين وحفنة بحفنتين لعدم وجود المعيار المعروف للمساواة ، فلم يتحقق الفضل ، ولهذا كان مضمونا بالقيمة عند الإتلاف لا بالمثل ثم قال : وهذا إذا لم يبلغ كل واحد من البدلين نصف صاع ، فلو بلغه أحدهما لم يجز حتى لا يجوز بيع نصف صاع فصاعدا بحفنة ا هـ .

ثم رجح الحرمة مطلقا ويأتي بيانه ( قوله لم يقدر المعيار بالذرة ) وقال في البحر : لو باع ما لا يدخل تحت الوزن ، كالذرة من ذهب وفضة بما لا يدخل تحته جاز لعدم التقدير شرعا إذ لا يدخل تحت الوزن ا هـ وظاهر قوله كالذرة أنها غير قيد ، ويؤيده قول المصنف وذرة من ذهب إلخ ، فيشمل الذرتين والأكثر مما لا يوزن ، والظاهر أن الحبة معيار شرعا نصف درهم بنصف إلا حبة كما سيأتي آخر الصرف ، فقد اعتبروا الحبة مقدارا شرعيا . وفي الفتح عن الأسرار : ما دون الحبة من الذهب والفضة لا قيمة له ا هـ ومقتضاه أن ما دون الحبة حكم الذرة ، فالمراد بالذرة هنا ما لا يبلغ حبة فافهم ( قوله كحفنة ) بفتح المهملة

[ ص: 175 ] وسكون الفاء ملء الكفين كما في الصحاح والمقاييس ، لكن في المغرب والقاموس والطلبة والنهاية ملء الكف قهستاني ( قوله ما لم يبلغ نصف صاع ) أي فإذا بلغ نصف صاع لم يصح بيعه بحفنة كما ذكرناه آنفا عن الفتح ( قوله وفلس بفلسين ) هذا عندهما وقال محمد : لا يجوز ، ومبنى الخلاف على أن الفلوس الرائجة أثمان ، والأثمان لا تتعين بالتعيين ، فصار عنده كبيع درهم بدرهمين . وعندهما لما كانت غير أثمان خلقة بطلت ثمنيتها باصطلاح العاقدين ، وإذا بطلت تتعين بالتعيين كالعروض وتمامه في الفتح ( قوله بأعيانهما ) أي بسبب تعين ذات البدلين ونقديتهما فالباء للسببية لا بمعنى مع كما ظن ، فإنه حال ولم يجز تنكير صاحبها كما تقرر قهستاني .

قلت : كون الباء للسببية بعيد ، لأن قوله بأعيانهما شرط لصحة البيع لا سبب ، وكونها بمعنى مع لا يلزم كونه حالا بل يجوز كونه صفة تأمل ( قوله إنه قيد في الكل ) المتبادر من كلام الفتح وغيره أنه قيد لقوله وفلس بفلسين . وقد يقال يعلم أنه قيد للكل بالأولى لأنه إذا اشترط التعيين في مسألة الفلوس مع الاختلاف في بقائها أثمانا أولا ففي غيرها بالأولى ، إذ لا خلاف في أن غيرها ليس أثمانا بل في حكم العروض فلا بد من تعينها تأمل ( قوله فلو كانا ) أي البدلان وهذا بيان المحترز قوله بأعيانهما ( قوله لم يجز اتفاقا ) قال في النهر بعده غير أن عدم الجواز عند انتفاء تعينهما باق وإن تقابضا في المجلس ، بخلاف ما لو كان أحدهما فقط وقبض الدين فإنه يجوز كذا في المحيط ا هـ .

وحاصله : أن الصور أربع ما لو كانا معينين ، وهو مسألة المتن الخلافية وما إذا كانا غير معينين ، فلا يصح اتفاقا مطلقا وما لو عين أحد البدلين دون الآخر وفيه صورتان ، فإن قبض المعين منهما صح وإلا فلا وهذا مخالف لإطلاق المصنف الآتي في قوله باع فلوسا بمثلها ويأتي تمامه ( قوله وبيضة ببيضتين ) فيه أن هذا مما لم يدخله القدر الشرعي كالسيف والسيفين والإبرة والإبرتين ، فجواز التفاضل لعدم دخول القدر الشرعي فيهما ، ويحرم النساء لوجود الجنس ط والجواب أن قول المصنف . وبلا معيار شرعي أعم من أن يكون مما يمكن تقديره بالمعيار الشرعي أولا فالعلة في الكل عدم القدر كما صرح به الزيلعي ، وأفاده الشارح بعد فافهم ( قوله وسيف بسيفين إلخ ) لأنه بالصنعة خرج عن كونه وزنيا كما قدمناه عن الفتح ( قوله وإناء بأثقل منه ) أي إذا كان لا يباع وزنا لما في البحر عن الخانية باع إناء من حديد بحديد إن كان الإناء يباع وزنا تعتبر المساواة في الوزن وإلا فلا ، وكذا لو كان الإناء من نحاس أو صفر باعه بصفر ا هـ .

( قوله فيمتنع التفاضل ) أي وإن كانت لا تباع وزنا لأن صورة الوزن منصوص عليها في النقدين ، فلا تتغير بالصنعة فلا تخرج عن الوزن بالعادة كما قدمناه عن الفتح ( قوله مما لا يدخل تحت الوزن ) بيان لقوله وذرة أشار به إلى ما قدمناه من أن الذرة غير قيد ( قوله بمثليها ) أي بمثلي الذرة وفي بعض النسخ بصيغة المفرد ، والأولى أولى لموافقته لقوله حفنة بحفنتين إلخ ( قوله فجاز الفصل إلخ ) تفريع على جميع ما مر ببيان أن وجه جواز الفضل في هذه المذكورات كونها مقدرة شرعا وإن اتحد الجنس ففقدت إحدى العلتين ، فلذا حل الفضل وحرم النساء ، ولم يصرح المصنف باشتراط الحلول لعلمه مما سبق ( قوله حتى لو انتفى ) أي الجنس ( قوله فيحل ) الأولى إسقاط الفاء لأنه جواب لو ( قوله مطلقا ) أي حالا

[ ص: 176 ] ونسيئة ( قوله وصحح كما نقله الكمال ) مفاده أن الكمال نقل تصحيحه عن غيره مع أنه هو الذي بحث ما يفيد تصحيحه ، فإنه ذكر ما مر من عدم التقدير شرعا بما دون نصف صاع ، ثم قال : ولا يسكن الخاطر إلى هذا بل يجب بعد التعليل بالقصد إلى صيانة أموال الناس تحريم التفاحة بالتفاحتين والحفنة بالحفنتين ، أما إن كان مكاييل أصغر منها كما في ديارنا من وضع ربع القدح وثمن القدح المصري فلا شك ، وكون الشرع لم يقدر بعض المقدرات الشرعية في الواجبات المالية كالكفارات وصدقة الفطر بأقل منه لا يستلزم إهدار التفاوت المتيقن ، بل لا يحل بعد تيقن التفاضل مع تيقن تحريم إهداره . ولقد أعجب غاية العجب من كلامهم هذا ، وروى المعلى عن محمد أنه كره التمرة بالتمرتين وقال : كل شيء حرم في الكثير فالقليل منه حرام ا هـ فهذا كما ترى تصحيح لهذه الرواية وقد نقل من بعده كلامه هذا وأقروه عليه كصاحب البحر والنهر والمنح والشرنبلالية والمقدسي .




الخدمات العلمية