الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 118 ] ( ومن استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها أو أي شيء يزرعها فالإجارة فاسدة ) ; لأن الأرض تستأجر للزراعة ولغيرها ، وكذا ما يزرع فيها مختلف ، فمنه ما يضر بالأرض ما لا يضر بها غيره ، فلم يكن المعقود عليه معلوما . [ ص: 119 ] ( فإن زرعها ومضى الأجل فله المسمى ) وهذا استحسان . وفي القياس : لا يجوز وهو قول زفر ; لأنه وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا . وجه الاستحسان أن الجهالة ارتفعت قبل تمام العقد فينقلب جائزا ، كما إذا ارتفعت في حالة العقد ، وصار كما إذا أسقط الأجل المجهول قبل مضيه والخيار الزائد في المدة .

( ومن استأجر حمارا إلى بغداد بدرهم ولم يسم ما يحمل عليه فحمل ما يحمل الناس فنفق في نصف الطريق فلا ضمان عليه ) ; لأن العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر ، وإن كانت الأجرة فاسدة ( فإن بلغ بغداد فله الأجر المسمى استحسانا ) على ما ذكرنا في المسألة الأولى ( وإن اختصما قبل أن يحمل عليه ) وفي المسألة الأولى قبل أن يزرع ( نقضت الإجارة ) دفعا للفساد إذ الفساد قائم بعد .

التالي السابق


( قوله : فإن زرعها ، ومضى الأجل فله المسمى ) قال صاحب غاية البيان في شرح هذا المقام : فإن زرعها بعد ما فسد العقد للجهالة يتعين ذلك الزرع معقودا عليه وينقلب العقد إلى الجواز ، ويجب الأجر المسمى إذا لم يكن ذلك قبل نقض القاضي العقد . ا هـ كلامه .

أقول : لا معنى لقوله إذا لم يكن ذلك قبل نقض القاضي العقد ، فإن ما ذكر من انقلاب العقد إلى الجواز ووجوب الأجر المسمى إنما يتصور إذا كان زرعها قبل نقض القاضي العقد . وأما إذا لم يكن ذلك قبل نقضه العقد بل كان بعد ذلك فلا مجال للانقلاب إلى الجواز ; لأن المنقوض لا يعود إلا بالتجديد لا محالة . والصواب أن يقال إذا لم يكن ذلك بعد نقض القاضي العقد ، ولعل لفظة " قبل " في قوله قبل نقض القاضي وقعت سهوا من الناسخ الأول بدل لفظة " بعد " ، ويدل عليه قوله فيما بعد : وإن زرعها بعد نقض القاضي لا يعود جائزا ( قوله : وجه الاستحسان أن الجهالة ارتفعت قبل تمام العقد فينقلب جائزا ) قال صاحب العناية في حل قوله قبل تمام العقد : بنقض الحاكم ، وتبعه الشارح العيني .

أقول : لا يخفى على الفطن أن جعل العقد تاما بنقض الحاكم مما لا تقبله الفطرة السليمة ، فإن العقد ينفسخ من الأصل بنقض الحاكم إياه فكيف يتصور أن يتم به ، وتمام الشيء من آثار بقائه واقتضائه . والحق أن المراد [ ص: 120 ] بقوله قبل تمام العقد قبل تمام مدة العقد على ما هو الشائع من حذف المضاف يدل عليه قوله : في وضع المسألة فإن زرعها ، ومضى الأجل : ويرشد إليه قول صاحب الكافي في التعليل : ولنا أن المعقود عليه صار معلوما قبل مضي الأجل فيرتفع الفساد ا هـ . هذا وقال في النهاية ، ومعراج الدراية : فإن قيل : وإن ارتفعت الجهالة بمجرد الزراعة لكن لم يرتفع ما هو الموجب للفساد ، وهو احتمال أن يزرع ما يضر بالأرض ; لجواز أن يكون ما زرعها مضرا بالأرض فتقع بينهما المنازعة بسبب ذلك ; لأن الموجب للفساد في ابتداء العقد كان احتمال ذلك وقد تحقق ذلك . فكيف ينقلب إلى الجواز بتحقق شيء احتماله مفسد للعقد ; ولأن المعقود عليه إذا كان مجهولا لا يتعين إلا بتعيينهما صونا عن الإضرار بأحدهما ، ولا ينفرد أحدهما بالتعيين ; لما أن العقد قام بهما ، فكذا تعيين المعقود عليه ينبغي أن يقوم بهما ، ثم الاستعمال تعيين من أحدهما فلا يصح ذلك . وهذا الإشكال هو الذي قاله صاحب الفوائد بقوله ولي في هذا التعليل إشكال هائل . ثم قال : قلنا الأصل إجارة العقد عند انتفاء المانع ; لأن عقود الإنسان تصح بقدر الإمكان ، والمانع الذي فسد العقد باعتباره توقع المنازعة بينهما في تعيين المعقود عليه ، وعند استيفاء أحد النوعين من المنافع يزول هذا التوقع فيجوز هذا العقد . انتهى ما في النهاية ، ومعراج الدراية .

أقول : في الجواب بحث ; لأن توقع المنازعة بينهما إنما يزول عند استيفاء أحد النوعين من المنافع إذا لم ينفرد أحدهما باستيفاء ذلك . وأما إذا انفرد أحدهما به فلا يزول ذلك أصلا ، وهذا مما لا سترة به ، فالكلام الفيصل أنه إن اعتبر في موضع هذه المسألة علم رب الأرض باستعمال المستأجر في الأرض ورضاه بما عمل فيها فلا يتجه الإشكال المذكور رأسا ، وإن لم يعتبر فيه ذلك بل انقلب العقد جائزا بمجرد استعمال المستأجر فيها ، ومضى الأجل ، سواء علم رب الأرض بذلك ورضي به أو لا ، فالإشكال المذكور وارد جدا غير مندفع بالجواب المزبور قطعا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية