الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فما يكذبك بعد بالدين ( 7 ) أليس الله بأحكم الحاكمين ( 8 ) ) .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( فما يكذبك بعد ) فقال بعضهم معناه : فمن يكذبك يا محمد بعد هذه الحجج التي احتججنا بها ، بالدين ، يعني : بطاعة الله ، وما بعثك به من الحق ، وأن الله يبعث من في القبور ؟ قالوا : " ما " في معنى " من " ؛ لأنه عني به ابن آدم ، ومن بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما يكذبك أيها الإنسان بعد هذه الحجج بالدين .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، قال : قلت لمجاهد : ( فما يكذبك بعد بالدين ) عني به النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : معاذ الله ! عني به الإنسان .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عمن سمع مجاهدا يقول : ( فما يكذبك بعد بالدين ) قلت : يعني به : النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : معاذ الله ! إنما يعني به الإنسان . [ ص: 515 ]

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ( فما يكذبك بعد بالدين ) أعنى به النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : معاذ الله ! إنما عني به الإنسان .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الكلبي ( فما يكذبك بعد بالدين ) ؟ إنما يعني الإنسان ، يقول : خلقتك في أحسن تقويم ، فما يكذبك أيها الإنسان بعد بالدين .

وقال آخرون : إنما عني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل له : استيقن مع ما جاءك من الله من البيان ، أن الله أحكم الحاكمين .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فما يكذبك بعد بالدين ) أي : استيقن بعد ما جاءك من الله البيان ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : معنى " ما " معنى " من " ووجه تأويل الكلام إلى : فمن يكذبك يا محمد بعد الذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين ؟ يعني : بطاعة الله ، ومجازاته العباد على أعمالهم . وقد تأول ذلك بعض أهل العربية بمعنى : فما الذي يكذبك بأن الناس يدانون بأعمالهم ؟ وكأنه قال : فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبين له خلقنا الإنسان على ما وصفنا .

واختلفوا في معنى قوله : ( بالدين ) فقال بعضهم : بالحساب .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي ، قال : ثنا محمد بن ربيعة ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، في قوله : ( فما يكذبك بعد بالدين ) قال : الحساب .

وقال آخرون : معناه : بحكم الله .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فما يكذبك بعد بالدين ) يقول : ما يكذبك بحكم الله .

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : الدين في هذا الموضع : الجزاء والحساب ، وذلك أن أحد معاني الدين في كلام العرب : الجزاء والحساب ; ومنه قولهم : [ ص: 516 ] كما تدين تدان . ولا أعرف من معاني الدين " الحكم " في كلامهم ، إلا أن يكون مرادا بذلك : فما يكذبك بعد بأمر الله الذي حكم به عليك أن تطيعه فيه ؟ فيكون ذلك .

وقوله : ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) يقول تعالى ذكره : أليس الله يا محمد بأحكم من حكم في أحكامه ، وفصل قضاءه بين عباده ؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ذلك فيما بلغنا قال : بلى .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : " بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين " .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا وكيع ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان ابن عباس إذا قرأ : ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) قال : سبحانك اللهم ، وبلى .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : كان قتادة إذا تلا ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) قال : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين ، أحسبه كان يرفع ذلك ; وإذا قرأ : ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ؟ قال : بلى ، وإذا تلا ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) قال : آمنت بالله ، وبما أنزل .

آخر تفسير سورة والتين

التالي السابق


الخدمات العلمية