الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3732 3733 ص: ولما ثبت بما وصفنا إباحة العمرة في أشهر الحج ، أردنا أن ننظر هل الهدي الواجب في القران لنقصان دخل العمرة أو الحجة إذا قرنتا أم لا ؟ فرأينا ذلك الهدي يؤكل منه ، وكذلك رسول الله - عليه السلام - فعله .

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، وفهد ، قالا : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنا الليث ، قال : حدثني ابن الهاد ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله في الحديث الطويل قال : " وكان علي - رضي الله عنه - قدم من اليمن بهدي رسول الله - عليه السلام - وكان جماعة الهدي الذي قدم به رسول الله - عليه السلام - وعلي من اليمن مائة بدنة فنحر رسول الله - عليه السلام - منها ثلاثا وستين بيده ونحر علي - رضي الله عنه - سبعا وثلاثين ، فأشرك عليا في هديه ، ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلت في قدر وطبخت ، فأكل رسول الله - عليه السلام - وعلي - رضي الله عنه - من لحمها ، وشربا من مرقها ، . فلما كان رسول الله - عليه السلام - قد ثبت عنه بما قد ذكرنا قبل هذا الفصل أنه قرن ، وأنه كان عليه لذلك هدي ، ثم أهدى هذه البدن التي ذكرنا ، فأكل من كل بدنة ما وصفنا ، ثبت بذلك إباحة الأكل من هدي المتعة والقران ، فلما كان ذلك الهدي مما يؤكل منه ، اعتبرنا حكم الدماء الواجبة للنقصان هل هي كذلك أم لا ، فرأينا الدم الواجب في قص الأظفار وحلق الشعر والجماع [ ص: 256 ] وكل دم يجب لترك شيء من الحجة لا يؤكل [شيء من] ذلك فكان كل دم وجب لإساءة أو نقصان لا يؤكل منه ، وكان دم المتعة والقران يؤكل منهما ، فثبت أنهما وجبا لمعنى خلاف الإساءة والنقصان ، فهذه حجة قاطعة على من كره القران والتمتع بالعمرة إلى الحج . .

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بقوله : "بما وصفنا" ما ذكره في حديث ابن عباس المذكور عن قريب الذي فيه إباحة العمرة في أشهر الحج ، ثم بين أن دم المتعة والقران دم شكر لا دم نقصان ؛ لأنا رأينا الدماء الواجبة عن الجنايات لا يؤكل منها شيء ، ورأينا دم المتعة والقران يؤكل منه شيء ، والدليل عليه حديث جابر - رضي الله عنه - فإنه يخبر أن رسول الله - عليه السلام - أكل من الذي ذبحه في قرانه ، فدل أنه إنما وجب شكرا ولم يجب جبرا لنقصان أو لأجل إساءة ، وفي هذا الباب خلاف بين السلف ، فروي عن نافع عن ابن عمر قال : يؤكل من كل شيء إلا من جزاء الصيد أو النذر ، وقاله علي ، قال : ولا مما جعل للمساكين .

                                                وقال الحسن : يؤكل من كل شيء إلا في جزاء الصيد .

                                                وقال الأوزاعي : يؤكل من الهدي خمسة أنواع : النذر والمتعة والتطوع والوصية والمحصر ، إلا الكفارات كلها .

                                                وقال أبو حنيفة : لا يؤكل من شيء من الهدي إلا المتعة والقران والتطوع إذا بلغ محله ، وقيل : يؤكل من كل ذلك إلا التطوع وجزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين .

                                                وعند الشافعي : لا يؤكل من دم المتعة والقران ، وقد بينا ذلك في الفروع .

                                                قوله : "وكذلك رسول الله - عليه السلام - فعله" أي فعل الأكل من دم المتعة والقران ، ثم بين ذلك بقوله : حدثنا محمد بن خزيمة . . . إلى آخره وإسناده صحيح وابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني روى له الجماعة ، [ ص: 257 ] وجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - أبو عبد الله المدني الصادق ، وأبوه محمد بن علي الباقر ، وهذا الحديث طويل وقد سقناه كله في أول الباب من رواية مسلم ، والطحاوي أخرج بعضه أيضا هناك عن ربيع ، عن أسد ، عن حاتم بن إسماعيل ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر .

                                                قوله : "ثلاثا وستين بيده" وفي بعض الروايات "ثلاثا وستين بدنة" وكل ذلك صواب ، لكن المروي هو نحر النبي - عليه السلام - بيده وهو أصوب ها هنا - إن شاء الله - لقوله "ونحر علي سبعا وثلاثين" .

                                                فإن قيل : ما الحكمة في أنه - عليه السلام - نحر ثلاثا وستين بدنة بيده واقتصر على هذا العدد ؟

                                                قلت : فكأنه - عليه السلام - أشار بذلك إلى منتهى عمره ؛ لأنه عمر ثلاثا وستين سنة فيكون قد نحر عن كل سنة من عمره بدنة .

                                                قوله "بضعة" بفتح الباء أي قطعة من لحمها قال القاضي : لما كان الأكل من جميع لحمها فيه كلفة ، جمعه في قدر واحد فيكون تناوله من المرق كالأكل من الجميع ، وقال ويحتج بهذا لقولنا : إنه من حلف ألا يأكل لحما فشرب مرقة ، فإنه حانث ؛ لحصول اللحم فيه ، إلا أن يكون له مقصد ونية .

                                                قلت : الأيمان تبنى على العرف ، فلا يقال في العرف لمن شرب مرقة لحم : إنه أكل لحما ، فحينئذ لا يحنث [من حلف] لا يأكل من هذا اللحم فشرب من مرقه والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية