الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ رفع المصاحف والدعوة إلى الحكومة ]

فلما رأى عمرو أن أمر أهل العراق قد اشتد ، وخاف الهلاك ، قال لمعاوية : هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا ، ولا يزيدهم إلا فرقة ؟ قال : نعم . قال : نرفع المصاحف ، ثم نقول لما فيها : هذا حكم بيننا وبينكم ، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول : ينبغي لنا أن نقبل ، فتكون فرقة بينهم ، وإن قبلوا ما فيها ، رفعنا القتال عنا إلى أجل .

فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا : هذا حكم كتاب الله - عز وجل - بيننا وبينكم ، من لثغور الشام بعد أهله ؟ من لثغور العراق بعد أهله ؟ فلما رآها الناس قالوا : نجيب [ ص: 668 ] إلى كتاب الله . فقال لهم علي : عباد الله ، امضوا على حقكم وصدقكم ، وقتال عدوكم ، فإن معاوية وعمرا ، وابن أبي معيط ، وحبيبا ، وابن أبي سرح والضحاك ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتم أطفالا ، ثم رجالا ، فكانوا شر أطفال وشر رجال ، ويحكم والله ما رفعوها إلا خديعة ووهنا ومكيدة . فقالوا له : لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله ! فقال لهم علي : فإني إنما أقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب ، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونسوا عهده ، ونبذوا كتابه . فقال له مسعر بن فدكي التميمي ، وزيد بن حصين الطائي ، في عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك : يا علي أجب إلى كتاب الله - عز وجل - إذ دعيت إليه ، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم ، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان ! قال : فاحفظوا عني نهيي إياكم ، واحفظوا مقالتكم لي ، فإن تطيعوني فقاتلوا ، وإن تعصوني ، فاصنعوا ما بدا لكم . قالوا : ابعث إلى الأشتر فليأتك . فبعث علي يزيد بن هانئ إلى الأشتر يستدعيه . فقال الأشتر : ليست هذه الساعة بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني [ فيها ] عن موقفي ، إنني قد رجوت أن يفتح الله لي ! فرجع يزيد فأخبره ، وارتفعت الأصوات وارتفع الرهج من ناحية الأشتر ، فقالوا : والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل ! فقال علي : هل رأيتموني ساررته ؟ أليس كلمته على رؤوسكم وأنتم تسمعون ؟ قالوا : فابعث إليه فليأتك ، وإلا والله اعتزلناك ! فقال له : ويلك يا يزيد ! قل له : أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت . فأبلغه ذلك ، فقال الأشتر : ألرفع المصاحف ؟ قال : نعم . قال : والله لقد ظننت أنها ستوقع اختلافا وفرقة ! إنها مشورة ( ابن العاهر ) ! ألا ترى إلى الفتح ؟ ألا ترى ما يلقون ؟ ألا ترى ما صنع الله لنا ؟ لن ينبغي أن أدع هؤلاء ! وانصرف عنهم . فقال له يزيد : أتحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوه أو يقتل ؟ قال : لا والله ، سبحان الله ! فأعلمه بقولهم ، فأقبل إليهم الأشتر وقال : يا أهل العراق ! يا أهل الذل والوهن ! أحين علوتم القوم ، وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها ، وهم والله ، قد تركوا ما أمر الله به فيها ، وسنة من أنزلت عليه ؟ فأمهلوني ( فواقا فإني ) قد أحسست بالفتح . قالوا : لا . قال : أمهلوني عدو الفرس ، فإني قد طمعت في النصر . قالوا : إذن ندخل معك في خطيئتك . قال : فخبروني عنكم متى كنتم [ ص: 669 ] محقين ؟ أحين تقاتلون وخياركم يقتلون ؟ فأنتم الآن إذ أمسكتم عن القتال ، مبطلون أم أنتم الآن محقون ؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم ، وهم خير منكم ، في النار . قالوا : دعنا منك يا أشتر ، قاتلناهم لله ، وندع قتالهم لله ! قال : خدعتم فانخدعتم ، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم ، يا أصحاب الجباه السود ! ( كنا نظن ) صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله ، فلا أرى مرادكم إلا الدنيا ، ألا قبحا يا أشباه النيب الجلالة ! ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا ، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون ! فسبوه وسبهم ، وضربوا وجه دابته بسياطهم ، وضرب وجوه دوابهم بسوطه ، فصاح به وبهم علي فكفوا . وقال الناس : قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما .

فجاء الأشعث بن قيس إلى علي فقال : أرى الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد . قال : ائته . فأتاه ، فقال لمعاوية : لأي شيء رفعتم هذه المصاحف ؟ قال : لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه ، تبعثون رجلا ترضون به ، ونبعث نحن رجلا نرضى به ، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ، ثم نتبع ما اتفقنا عليه . قال له الأشعث : هذا الحق . فعاد إلى علي فأخبره ، فقال الناس : قد رضينا وقبلنا . فقال أهل الشام . قد رضينا عمرا . وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج : إنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري . فقال علي : قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن ، لا أرى أن أولي أبا موسى . فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي : لا نرضى إلا به ، فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه . قال علي : فإنه ليس بثقة ، قد فارقني وخذل الناس عني ، ثم هرب مني ، حتى آمنته بعد أشهر ، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك . قالوا : والله لا نبالي أنت كنت أم ابن عباس ! لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء . قال علي : فإني أجعل الأشتر . قالوا : وهل سعر الأرض غير الأشتر ؟ فقال : قد أبيتم إلا أبا موسى ؟ قالوا : نعم . قال : فاصنعوا ما أردتم .

[ ص: 670 ] فبعثوا إليه ، وقد اعتزل القتال ، وهو بعرض ، فأتاه مولى له فقال : إن الناس قد اصطلحوا . فقال : الحمد لله . قال : قد جعلوك حكما . قال : إنا لله وإنا إليه راجعون . وجاء أبو موسى حتى دخل العسكر ، وجاء الأشتر عليا فقال : ألزني بعمرو بن العاص ، فوالله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه . وجاء الأحنف بن قيس فقال : يا أمير المؤمنين إنك قد رميت بحجر الأرض ، وإني قد عجمت أبا موسى ، وحلبت أشطره ، فوجدته كليل الشفرة ، قريب القعر ، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم ، حتى يصير في أكفهم ، ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم ، فإن أبيت أن تجعلني حكما ، فاجعلني ثانيا أو ثالثا ، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها ، ولا يحل عقدة أعقدها لك ، إلا عقدت أخرى أحكم منها .

فأبى الناس إلا أبا موسى والرضا بالكتاب . فقال الأحنف : إن أبيتم إلا أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال .

وحضر عمرو بن العاص عند علي ليكتب القضية بحضوره ، فكتبوا : بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين . فقال عمرو : [ اكتب اسمه واسم أبيه ] ، هو أميركم وأما أميرنا فلا . فقال الأحنف : لا تمح اسم إمارة المؤمنين فإني أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا ، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضا . فأبى ذلك علي مليا من النهار ، ثم إن الأشعث بن قيس قال : امح هذا الاسم ، فمحي ، فقال علي : الله أكبر ! سنة بسنة . والله إني لكاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية فكتبت : محمد رسول الله ، وقالوا : لست برسول الله ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمحوه ، فقلت : لا أستطيع . فقال : أرنيه ، فأريته ، فمحاه بيده وقال : إنك ستدعى إلى مثلها فتجيب . فقال عمرو : سبحان الله ! أنشبه بالكفار ونحن مؤمنون ! [ ص: 671 ] فقال علي : يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليا ، وللمؤمنين عدوا ؟ فقال عمرو : والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبدا . فقال علي : إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك ومن أشباهك . وكتب الكتاب : هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ، ومعاوية بن أبي سفيان ، قاضى علي على أهل الكوفة ومن معهم ، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن معهم ، إننا ننزل عند حكم الله وكتابه ، وأن لا يجمع بيننا غيره ، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات ، فما وجد الحكمان في كتاب الله ، وهما أبو موسى عبد الله بن قيس ، وعمرو بن العاص ، عملا به ، وما لم يجداه في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة . وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما ، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه ، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يرداها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا ، وأجل القضاء إلى رمضان ، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه ، وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام .

وشهد الأشعث بن قيس ، وسعيد بن قيس الهمداني ، ووقاء بن سمي البجلي ، وعبد الله بن محل العجلي ، وحجر بن عدي الكندي ، وعبد الله بن الطفيل العامري ، وعقبة بن زياد الحضرمي ، ويزيد بن حجية التميمي ، ومالك بن كعب الهمداني ، ( ومن أصحاب معاوية أبو الأعور السلمي ، وحبيب بن مسلمة ، وزمل بن عمرو العذري ، وحمرة بن مالك الهمداني ، وعبد الرحمن بن خالد المخزومي ، وسبيع بن يزيد الأنصاري ) ، وعتبة بن أبي سفيان ، ( ويزيد بن الحر العبسي ) .

وقيل للأشتر ليكتب فيها ، فقال : لا صحبتني يميني ، ولا نفعتني بعدها شمالي ، إن خط لي في هذه الصحيفة [ اسم على صلح ولا موادعة ] ، أولست على بينة من ربي من [ ص: 672 ] ضلال عدوي ، أولستم قد رأيتم الظفر ؟ فقال له الأشعث : والله ما رأيت ظفرا ، هلم إلينا لا رغبة بك عنا . فقال : بلى والله ، الرغبة في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة ، لقد سفك الله بسيفي دماء رجال ما أنت خير عندي منهم ، ولا أحرم دما . قال : فكأنما قصع الله على أنف الأشعث الحمم . وخرج الأشعث بالكتاب يقرؤه على الناس ، حتى مر على طائفة من بني تميم ، فيهم عروة بن أدية أخو أبي بلال فقرأه عليهم ، فقال عروة : تحكمون في أمر الله الرجال ؟ لا حكم إلا لله ! ثم شد بسيفه فضرب به عجز دابة الأشعث ضربة خفيفة ، واندفعت الدابة ، وصاح به أصحاب الأشعث ، فرجع ، وغضب للأشعث قومه ( وناس كثير من أهل اليمن ) ، فمشى إليه الأحنف بن قيس ، ومسعر بن فدكي ، وناس من تميم فاعتذروا ، فقبل وشكر .

وكتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين ، واتفقوا على أن يوافي أمير المؤمنين علي موضع الحكمين بدومة الجندل أو بأذرح في شهر رمضان . وقيل لعلي : إن الأشتر لا يقر بما في الصحيفة ، ولا يرى إلا قتال القوم . فقال علي : وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا ، فإذا أبيتم إلا أن ترضوا فقد رضيت ، وإذا رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ، ولا التبديل بعد الإقرار ، إلا أن يعصى الله ويتعدى كتابه ، فقاتلوا من ترك أمر الله ، وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه ( فليس من أولئك ) فلست أخاف على ذلك ، يا ليت فيكم مثله اثنين ! يا ليت فيكم مثله واحدا يرى في عدوي ما أرى ، إذا لخفت علي مؤونتكم ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم ، وقد نهيتكم فعصيتموني ، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن :

[ ص: 673 ] وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

والله لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة ، وأسقطت منة ، وأورثت وهنا وذلة ، ولما كنتم الأعلين وخاف عدوكم الاجتياح واستحر بهم القتل ، ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف ، فدعوكم إلى ما فيها ليفتنوكم عنهم ، ويقطعوا الحرب ، ويتربصوا بكم المنون خديعة ومكيدة ، فأعطيتموهم ما سألوا ، وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجيروا ، وايم الله ما أظنكم بعدها توفقون الرشد ولا تصيبون باب الحزم .

ثم رجع الناس عن صفين ، فلما رجع علي خالفت الحرورية وخرجت ، كان ذلك أول ما ظهرت ( وأنكرت تحكيم الرجال ) ، ورجعوا على غير الطريق الذي أقبلوا فيه ، أخذوا على طريق البر ، وعادوا وهم أعداء متباغضون ( وقد فشا فيهم التحكيم ) يقطعون الطريق بالتشاتم والتضارب بالسياط ، يقول الخوارج : يا أعداء الله أدهنتم في أمر الله ، ويقول الآخرون : فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا .

وساروا حتى جازوا النخيلة ، ورأوا بيوت الكوفة ، فإذا بشيخ في ظل بيت عليه أثر المرض ، فسلم عليه أمير المؤمنين ، فرد ردا حسنا ، فقال له علي : أرى وجهك متغيرا ، [ ص: 674 ] أمن مرض ؟ قال : نعم . قال : لعلك كرهته . قال : ما أحب أنه بغيري . فقال : أليس ( احتسابا للخير ) فيما أصابك ؟ قال : بلى قال : فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك ، من أنت يا عبد الله ؟ قال : صالح بن سليم . قال : ممن أنت ؟ قال : أما الأصل فمن سلامان طيء ، وأما الدعوة والجوار ففي سليم بن منصور . فقال : سبحان الله ما أحسن اسمك واسم أبيك ومن اعتزيت إليه ، واسم ادعائك ! هل شهدت معنا غزاتنا هذه ؟ قال : لا والله ، ولقد أردتها ولكن ما ترى من أثر الحمى منعني عنها . فقال : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) الآية ، خبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام ؟ قال : فيهم المسرور ، وهم أغشاء الناس ، وفيهم المكبوت الآسف بما بينك وبينهم ، وأولئك نصحاء الناس لك . قال : صدقت ، جعل الله ما كان من شكواك حطا لسيئاتك ، فإن المرض لا أجر فيه ، ولكن لا يدع على العبد ذنبا إلا حطه ، وإنما الأجر في القول باللسان والعمل باليد والرجل ، وإن الله - عز وجل - ليدخل بصدق النية والسريرة الصالحة عالما من عباده الجنة . ثم مضى غير بعيد ، فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري ، فدنا منه وسلم عليه وسايره ، فقال له : ما سمعت الناس يقولون في أمرنا ؟ قال : منهم المعجب به ومنهم الكاره له . قال : فما قول ذوي الرأي ؟ قال : يقولون إن عليا كان له جمع عظيم ففرقه ، وكان حصن حصين فهدمه ، فمتى يبني ما هدم ويجمع ما فرق ؟ ولو كان مضى بمن أطاعه ( إذ عصاه ) من عصاه ، فقاتل حتى يظفر أو يهلك كان ذلك الحزم . قال علي : أنا هدمت أم هم هدموا ؟ أنا فرقت أم هم فرقوا ؟ أما قولهم : لو كان مضى بمن أطاعه فقاتل حتى يظفر أو يهلك ، فوالله ما خفي هذا عني ، وإن كنت لسخيا بنفسي عن الدنيا ، طيب النفس بالموت ، ولقد هممت بالإقدام على القوم فنظرت إلى هذين قد ابتدراني - يعني الحسن والحسين - ونظرت إلى هذين قد استقدماني - يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي - فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمة ، وكرهت ذلك ، وأشفقت على هذين أن يهلكا ، وايم الله لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينهم وليسوا معي في عسكر ولا دار .

[ ص: 675 ] ثم مضى ، وإذا على يمينه قبور سبعة أو ثمانية ، فقال علي : ما هذه ؟ فقيل يا أمير المؤمنين إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك ، وأوصى بأن يدفن في الظهر ، وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم ، وكان أول من دفن بظاهر الكوفة ودفن الناس إلى جنبه ، فقال علي : رحم الله خبابا ، فلقد أسلم راغبا ، وهاجر طائعا ، وعاش مجاهدا ، وابتلي في جسمه أحوالا ، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا ، ووقف عليها وقال : السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة ، والمحال المقفرة ، من المؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ! أنتم لنا سلف فارط ، ونحن لكم تبع ، وبكم عما قليل لاحقون ! اللهم اغفر لنا ولهم ، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم ! طوبى لمن ذكر ( المعاد ، وعمل للحساب ، وقنع ) بالكفاف ، ورضي عن الله - عز وجل - ! ثم أقبل حتى حاذى سكة الثوريين ، فسمع البكاء فقال : ما هذه الأصوات ؟ فقيل : البكاء على قتلى صفين . فقال : أما إني أشهد لمن قتل منهم صابرا محتسبا بالشهادة . ثم مر بالفائشيين فسمع مثل ذلك ، ثم مر بالشباميين فسمع رجة شديدة فوقف ، فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي ، فقال له علي : أيغلبكم نساؤكم ؟ ألا تنهونهن عن هذا الرنين ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، لو كانت دارا أو دارين أو ثلاثا قدرنا على ذلك ، ولكن قتل من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل ، فليس دار إلا وفيها البكاء ، فأما نحن معشر الرجال ، فإنا لا نبكي ، ولكنا نفرح بالشهادة . قال علي : رحم الله قتلاكم وموتاكم ! فأقبل يمشي معه وعلي راكب ، فقال له علي : ارجع ، ووقف ثم قال له : ارجع ، فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ، ومذلة للمؤمن . ثم مضى حتى مر بالناعطيين ، وكان جلهم عثمانية ، فسمع بعضهم يقول : والله ما صنع علي شيئا ، ذهب ثم انصرف في غير شيء ، فلما رأوه أبلسوا ، فقال علي لأصحابه : وجوه قوم ما رأوا الشام . ثم قال لأصحابه : [ قوم ] فارقناهم آنفا خير من هؤلاء . ثم قال :


أخوك الذي إن أجرضتك ملمة من الدهر لم يبرح لبثك واجما

[ ص: 676 ]     وليس أخوك بالذي إن تشعبت
عليك الأمور ظل يلحاك لائما



ثم مضى فلم يزل يذكر الله حتى دخل القصر . فلما دخل الكوفة لم يدخل الخوارج معه ، فأتوا حروراء فنزلوا بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية