الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 155 ] ( إن ناشئة الليل ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إن ناشئة الليل ) يقال : نشأت تنشأ نشأ ، فهي : ناشئة ، والإنشاء الإحداث ، فكل ما حدث [فهو ناشئ] فإنه يقال للذكر ناشئ ، وللمؤنث ناشئة ، إذا عرفت هذا فنقول في الناشئة قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنها عبارة عن ساعات الليل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في ساعات الليل .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القول الأول ، فقال أبو عبيدة : ناشئة الليل ساعاته وأجزاؤه المتتالية المتعاقبة فإنها تحدث واحدة بعد أخرى ، فهي ناشئة بعد ناشئة . ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فمنهم من قال : الليل كله ناشئة ، روى ابن أبي مليكة ، قال سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل ، فقالا : الليل كله ناشئة .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال زين العابدين رضي الله عنه : ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والكسائي ، قالوا : لأن ناشئة الليل هي الساعة التي منها يبتدئ سواد الليل .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : هو تفسير الناشئة بأمور تحدث في الليل ، وذكروا على هذا القول وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قالوا : (ناشئة الليل) هي النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض وترتفع ، من نشأت السحابة إذا ارتفعت .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : ناشئة الليل ، عبارة عن قيام الليل بعد النوم ، قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة ، ومنه ناشئة الليل .

                                                                                                                                                                                                                                            وعندي فيه وجه ثالث : وهو أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات ألبتة ، فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإلهية ، وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات, فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات ، فلا تتفرغ للأحوال الروحانية ، فالمراد من ناشئة الليل تلك الواردات الروحانية والخواطر النورانية ، التي تنكشف في ظلمة الليل بسبب فراغ الحواس ، وسماها ناشئة الليل ؛ لأنها لا تحدث إلا في الليل بسبب أن الحواس الشاغلة للنفس معطلة في الليل ومشغولة في النهار ، ولم يذكر أن تلك الأشياء الناشئة منها تارة أفكار وتأملات ، وتارة أنوار ومكاشفات ، وتارة انفعالات نفسانية من الابتهاج بعالم القدس أو الخوف منه ، أو تخيلات أحوال عجيبة ، فلما كانت تلك الأمور الناشئة أجناسا كثيرة لا يجمعها جامع ، إلا أنها أمور ناشئة حادثة لا جرم لم يصفها إلا بأنها ناشئة الليل .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية