الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 179 ] معنى الأجل

والأجل : عبارة عن مدة ضربت لأمر ، وقد يراد به : تمام هذه المدة التي هي تمام عمر الإنسان ، وتارة : الجزء الأخير من العمر .

ومن هنا يستعمل لفظ «الأجل» بمعنى : الموت . «ورزقه» ; أي : قدر الرزق الواصل إليه من الطعام والشراب وسائر المنافع والمرافق ، «وشقي أو سعيد» ; أي : عاقبة أمره ماذا يكون ؟

وقد ورد في بعض الأحاديث ذكر الأثر ، والمضجع ، والمصائب أيضا . ولعل هذه الزيادات أوحيت إليه بعد هذا البيان .

«ثم ينفخ فيه الروح» ظاهر الحديث : أن الكتابة قبل هذا النفخ ، وإدخال الروح في البدن .

ولكن في رواية البيهقي : أن الكتابة بعد نفخ الروح ، ورواية البخاري ومسلم أصح وأثبت . والله أعلم .

وكما كان في كتب السعادة والشقاوة مع كتب العمل خفاء ، بين ذلك بقوله : «فوالذي لا إله غيره! إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة» من الإيمان الخالص ، والعمل الصالح «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع» كناية عن قرب المسافة ودخول الجنة ، «فيسبق عليه الكتاب الذي كتب في التقدير من الشقاوة وهو في بطن أمه ، «فيعمل بعمل أهل النار» من الكفر والشرك والفساد ، فيدخلها» ; أي : النار ، «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار» من الشرك والبدع المضلة والفساد «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب» الذي كتب وهو في البطن ، من السعادة ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها» ; أي : الجنة .

[ ص: 180 ] قال في الترجمة : المراد : أن هذا يقع على سبيل الندرة ، ولكن اقتضى غلبة لطف الله ورحمته أن انقلاب الناس وتحولهم من الشر إلى جانب الخير أكثر ، وعكسه في غاية القلة ونهاية الندرة . والحمد لله على ذلك . انتهى .

وأقول : يا ألله! إن كنت كتبتني في الأشقياء ، فاكتبني برحمتك في السعداء ، واختم عملي بالحسنى . متفق عليه .

وهذا الحديث دل على الاعتبار بالخاتمة كما ورد في الحديث الآتي صريحا واضحا ، لا سترة عليه ، ولنعم ما قيل :


حكم مستورى و مستى ، بمه بر خاتمت ست كس ندانست كه آخر بجه حالت كذرو



قال في الترجمة : اعلم أن في هذا الحديث حثا وترغيبا على مواظبة الطاعات ، ومراقبة الأوقات ، وحفظها عن المعاصي; خوفا من أن تكون هذه النفس النفس الأخيرة من العمر ، ويختم له بالخير .


غافل زاحتياط نفس يك نفس مباش     شايد ، بمن نفس نفس وابسين بود



وهذا الكلام حسن على رغم من يتقاعد عن العمل بسماع خبر القضاء والقدر ، وينكر السعي فيه ، ويقول : إن السعادة والشقاوة ودخول الجنة والنار ، كل ذلك بسابقة القدر والقضاء ، وكل ما كتب فيه كائن ، ففيم العمل ؟ كما قال مثل ذلك بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أيضا ، قبل فهم المقصود ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيبا لهم - : «اعملوا ، فكل ميسر لما خلق» .

يعني : توقفكم في العمل والإنكار عليه منكم بعد سماع قضية القضاء والقدر لا معنى له; لأن الأمر والنهي وردا من الشارع ، وأوتيتم قوة فهم الخطاب وخلق فيكم القصد والاختيار ، الذي تطيقون العمل به .

فلا بد أن يكون هاهنا شيء يؤمر به العباد ، ويطلب له منهم الفعل ، وينهى لأجله ، وإلا ، فلا فائدة في الأمر والنهي ، وبعث الرسل وإنزال الكتب . وهذا سر [ ص: 181 ] غامض لا يمكن الوصول إلى كنهه ، وكم من أسرار لم يطلع الله عليها العباد!

وفي الحقيقة ، ليس عمل ولا حقيقة بموقوف على كشفه; فإنه تعالى مالك الملك ، ومن تصرف في ملكه ومماليكه ، لا يكون ذلك منه ظلما ، يعذب من يشاء ، ويرحم من يشاء .

ومنتهى كلام المتكلمين في هذا المقام : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

قال المحققون من أرباب الكشف : إن التكليف بالأمر والنهي اقتضته صفة الربوبية ، وعهد العبودية .

وفائدته : إبراز مكنون العلم والإرادة ، وإظهار حقائق بواطن العباد; ليظهر أيهم سعيد ، وأيهم شقي ، ومن هو مطيع منهم ، ومن هو عاص ؟

كما قال تعالى : ليبلوكم أيكم أحسن عملا [الملك : 2] .

وفي الحقيقة المقصود من ذلك : إظهار مقتضيات الأسماء والصفات والكمالات لذاته المقدسة ، وهو المراد من إيجاد هذا العالم «كنت كنزا مخفيا ، فأحببت أن أعرف» . انتهى .

قلت : هذا الكلام من صاحب الترجمة نفيس جدا إلا هذه الجملة الأخيرة; فإن حديث الكنز المخفي لم يثبت عند العلماء بالحديث ، ولا يعلم الغيب إلا الله .

ومن أين لنا أن نعرف السر الإلهي في إيجاد العالم ، لا سيما إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا من ذلك شيئا ؟

فالحق أن نؤمن ونعمل ، ونكل العلم بحقائق الأمور إلى باريها ، وفي هذا النجاة والأمن من التبعات . والله أعلم بالصواب .

وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن العبد ليعمل عمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة» ; أي : بموجب سابقة الأزل ، وحكم عاقبة الأمر ، ويعمل بعمل أهل الجنة ، وإنه من أهل النار» بحكم [ ص: 182 ] القضاء والقدر ، وإنما الأعمال بالخواتيم» ; أي : اعتبارها بالخاتمة على ماذا تتفق .

وروي «خواتم» على وزن «مساجد» ، و «الخواتيم» على زنة «المصابيح» جمع خاتمة .

قال السيد - رحمه الله - : هذا تذييل للكلام السابق المشتمل على معناه; لمزيد التقرير .

وفيه حث على المواظبة بالطاعات ، والحفظ على المعاصي ، خوفا من أن يكون ذلك آخر عمره .

وفيه : زجر عن العجب والتفرح; فإنه لا يدري ماذا يصيبه في العاقبة . وفيه : أنه لا يجوز الشهادة لأحد بالجنة ولا بالنار . انتهى متفق عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية