الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت : هذا الحديث والحديث الذي قبل هذا أدلة على ثبوت القدر ، وفيه من الترهيب ما لا يقادر قدره ، ومن الترغيب ما لا يبلغ مداه .

وها أنا أقول : اللهم إنك أمرتني فعصيت ، ونهيتني فأتيت ، ولكن لا إله إلا الله ، وفقنا لما تحب وترضى ، وجنبنا عما تسخط عليه ، واجعل خاتمة أمورنا بالحسنى وزيادة .

وعن أبي موسى - رضي الله عنه ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات» ; أي : خطبنا ، ووعظنا ، وذكرنا ، واهتم بحالنا ، فقال : «إن الله تعالى لا ينام» ، ولا يغفل عن حال العباد وأحوال تمام الكائنات ، وهذه كلمة أولى .

والثانية قوله : «ولا ينبغي أن ينام» يعني : أن النوم محال عليه ، وبهذا تغاير الكلمة الأولى; لأن من عدم النوم لا يلزم عدم إمكانه .

والثالثة - «يخفض القسط ويرفعه» القسط - بكسر القاف وسكون السين - : الرزق ، فهو معنى قوله تعالى : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [الإسراء : 30] والقسط : الميزان .

[ ص: 183 ] قال في الترجمة : وهذا أظهر وأنسب بالحديث الآخر ، الذي فيه : «بيده الميزان يخفض ويرفع» .

ومعنى خفضه ورفعه : وزن أرزاق العباد النازلة من جناب خالق الأغوار والأنجاد ، ووزن أعمالهم الصاعدة إلى حضرة العزة ، وتعريف مقاديرها للملائكة الموكلة عليها .

وهذا إشارة إلى قوله سبحانه : كل يوم هو في شأن ، وإلى أنه سبحانه يحكم في خلقه بميزان العدل .

وعلى هذا تكون هذه الكلمة مؤكدة مقررة للكلمة الثانية ، وهي قوله : «لا ينبغي له أن ينام» ; لأن من كان تصرفه في كل لحظة ولمحة دائما مستمرا ، لا ينبغي له أن يغفل وينام .

وأما الكلمة الرابعة ، فهي قوله : «يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل» .

قال في الترجمة : يعني : لم يأت النهار إلى الآن ، ولم يقع فيه العمل ، وقد صعد عمل الليل ، وكذلك لم يجئ الليل إلى الحال ، وقد صعد عمل النهار .

وفي هذا مبالغة في مسارعة الملائكة الموكلين على أعمال العباد ، في امتثال الأمر وسرعة العروج ، بمحال العرض ، ومصاعد السماوات ، وقدرتهم على رفع الأعمال في الساعة الأدنى .

لأن الفرق بين اليوم والليلة ، ليس إلا آنا وجزءا لا يتجزأ .

أو المراد : أنه يكتب عمل النهار على حدة ، وعمل الليل على حدة ، ثم يعرضونها .

وهذا المعنى من العبارة أظهر ، ولكن الجودة والبلاغة هي في المعنى الأول أكثر ، وهذه الكلمة أيضا مؤكدة لقوله : «لا ينبغي له أن ينام» .

وأما الكلمة الخامسة ، فهي قوله : «حجابه النور» ; أي : أنوار جلاله وأشعة [ ص: 184 ] عظمته وكبريائه وجماله التي تدهش العقول والمشاعر ، وتحير النفوس والبصائر ، عند الملاحظة والمشاهدة .

وهذا الحجاب في الحقيقة راجع إلى الخلق; فإنهم هم المحجوبون ، لا الحق - تعالى شأنه - كالعين العمياء بالنسبة إلى الشمس .

ولا يقال له تعالى : إنه محجوب; لأن المحجوب هو مغلوب الحاجب ومقهوره .

بل يقال في حقه سبحانه : محتجب; لكونه مستترا بذاته المقدسة تعززا وتمنعا بالعظمة والجلال والكبرياء .

ويحتمل أن يكون المعنى : إنه سبحانه محتجب من جهة شدة الظهور ، وغاية البروز ، كما أن الشمس إذا تطلع طلوعا صافيا ، تكون العين مظلمة ملتمعة في محسوساتها .

وفي الحقيقة حجابه : هو أنوار الصفات ، والذات المقدسة لا ينبغي أن تشاهد إلا في حجب الصفات .

وليس إدراك الذات البحت بممكن أصلا . وكل ما يحصل به الإدراك ، ويصير مشهودا ، فهو نور الصفات ، والله سبحانه وراءه .


رجه انديشي بذيرائى فناست أنجه دراند يشرنا يدآن خداست     كجهه أور مرتبة ، دني وه فهميدسى برى
سمجهين بين جكو يا وراه الله ، دبى ، بهين

وإن سقط حجاب الصفات من البين ، وتجلت الذات البحت ، لاستهلكت الكائنات بتمامها ، واضمحلت في أحدية الذات ، كما قال : «لو كشفه ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ; لأن بصره سبحانه أحاط الكائنات كلها ، وبلغ إلى نهايتها .

والسبحات - بضمتين - : جمع سبحة - بالضم والسكون; كغرفة وغرفات . والمراد بها : نور الوجه .

قال في «القاموس» : سبحات وجه الله : أنواره .

[ ص: 185 ] وإنما قيل للأنوار : سبحة; لأن المشاهدين لها يسبحون ويذكرون الله بالتنزيه والتقديس; هيبة ودهشة من جلال ذاته وعظمتها - تعالى شأنه - . رواه مسلم .

وما أجل هذا الحديث في بيان صفة الله سبحانه ، وعلوه وقدسه !! .

ويزيده إيضاحا ، حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : «يد الله ملأى ، لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض ، فإنه لم يغض ما في يده ، وكان عرشه على الماء ، وبيده الميزان يخفض ويرفع» متفق عليه .

وفي رواية لمسلم : «يمين الله ملأى» . . قال ابن نمير : ملآن سحاء ، لا يغيضها شيء ، الليل والنهار .

وهذا الحديث من أحاديث الصفات ، وفيه ذكر اليد ، واليمين ، فيلزم الإيمان بظاهره ، ويجب إمراره على لفظه ، من غير تأويل ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تشبيه ، ولا تمثيل .

وعن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : «يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك» .

ظاهره : أن المراد قلبه الشريف ، ولكنه في الحقيقة طلب الدعاء للأمة; فإنه مأمون العاقبة ، محفوظ القلب . وكذلك في الأدعية الأخرى .

والمقصود : تعليم الأمة ، وتلقينها على طريق التعريض والكناية ، ولذا قال أنس : فقلت : يا نبي الله! آمنا بك وبما جئت به . من الكتاب والسنة . فهل تخاف علينا ؟ أي : زوال الدين والإيمان ، وتطرق الفتور والنقصان إليه ، قال : نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله ، يقلبها كيف يشاء» ، ويتصرف فيها بما يريد . رواه الترمذي ، وابن ماجه .

الحديث دليل على ثبوت القضاء والقدر ، وهو المراد هنا .

وفيه دلالة على ثبوت صفة الإصبعين له تعالى ، وعلى هذا ، فهو من أحاديث الصفات ، وحكم إجرائها على ظاهرها ، مع وجوب الإيمان بها من غير تعطيل [ ص: 186 ] ولا تشبيه ، ولا تأويل ولا تمثيل ولا تكييف كما هو طريق السلف .

وأما الخلف ، فيؤولونها ، ولا وجه له ، فإن التأويل باب واسع ، يدخل فيه كل ذي رأي ، وعقل ، وقياس ، واجتهاد . وأي دليل على قبول التأويل لأحد وعدم قبوله من آخر ؟

فالحق عدم الخوض في ذلك ، وتفويضه إلى علم الله والإيمان به .

وفي هذا الباب حديث ابن عمر مرفوعا : «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرفه كيف يشاء» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم مصرف القلوب ، صرف قلوبنا على طاعتك» رواه مسلم . وفي حديث أبي موسى يرفعه : «مثل القلب كريشة بأرض فلاة ، تقلبها الرياح ظهرا لبطن» رواه أحمد .

يعني : أن حال القلوب كذلك أيضا ، فإن عروض الخواطر به ، وحدوث الحوادث له ، من قضاء الله وقدره .

والفلاة» : المفازة الخالية من النبات . ومعنى «ظهرا لبطن» : أنه كل ساعة يقلبها على صفة .

وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي يديه كتابان ، فقال : «أتدرون ما هذان الكتابان ، وماذا مرقوم فيهما ؟» .

قال في الترجمة : قال أهل التأويل : هذا تمثيل وتصوير وتعبير عن المعنى بالصورة ، ومبالغة في تحقيقه والتيقن به .

والمتكلم إذا أراد أن يحقق قوله ، ويفهمه غيره ، ويظهر المعنى الدقيق الخفي لمشاهدة السامع ، يصوره بالصورة الظاهرة ، ويشير إليه كالإشارة الحسية إلى المحسوس ، وإن لم يكن في الخارج وعالم الحس .

فلما كشفت على حضرة الرسالة صلى الله عليه وسلم حقيقة هذا الأمر ، واطلع عليها ، [ ص: 187 ] بحيث لم يبق فيها شك ولا شبهة ، مثل وصور المعنى الحاصل في قلبه الشريف ، كأنه في يديه ، مع أنه ليس في الخارج كتاب ولا مكتوب .

وقال أهل الباطن وأرباب المكاشفة : إن وجود الكتاب حق ، وهو محمول على الحقيقة ، من دون شائبة المجاز والتأويل .

قال الإمام حجة الإسلام في «كيمياء السعادة» : امتياز الخواص من العوام بشيئين: الأول : أن ما يحصل للعوام من العلوم بالكسب والتعلم ، فهو يحصل لهم من غير تكسب وتعلم من عند الله العليم الحكيم ، ويقال له «العلم اللدني» ، كما قال سبحانه : وعلمناه من لدنا علما [الكهف : 65] .

والثاني : أن كل ما يراه العامة في المنام يراه الخواص في اليقظة ، وحكايات المشايخ في هذا الباب كثيرة جدا .

وإذا كانت هذه الحالة ، وتلك الرتبة ، حاصلة لخواص أمته صلى الله عليه وسلم ، فكيف بسيد المرسلين .

بل ظاهر الحديث : أنه صلى الله عليه وسلم أدى هذين الكتابين للصحابة أيضا ، ولكن لم يعلموا بما كان فيهما من المضمون .

وقال المشايخ : من لا يعتقد ذلك ، فهو ليس بمؤمن بحقيقة النبوة . انتهى .

قلت : رحم الله صاحب الترجمة ، فقد أنصف في هذا المقام بترك التأويل وإجراء الحديث على ظاهره ، وإمراره على لفظه ومعناه المتبادر منه إلى الذهن القويم ، والقلب السليم ، والطبع المستقيم .

ولو سلك - رحمه الله - هذا المسلك في جميع أحاديث الصفات وآياتها ، لكان أصوب قيلا ، وأحسن مقيلا .

ولا ريب أن سياق الحديث وسباقه يدلان دلالة واضحة على وجود الكتابين ، وعلى أن ذلك ليس بتمثيل .

[ ص: 188 ] قلنا : لا يا رسول الله لا ندري ما في هذين الكتابين «إلا أن تخبرنا» ، وهذا التماس منه صلى الله عليه وسلم ليخبرهم بحالهما وبما فيهما ، «فقال للذي في يده اليمنى» ; أي : في شأنه : «هذا كتاب من رب العالمين ، فيه أسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم وقبائلهم» للتعيين والتمييز ، ثم أجمل على آخرهم» كما هو عادة أهل الحساب يكتبون العدد المجمل بعد تفصيل الأعداد; ليعلم أنها كذا في المقدار ، فلا يزاد فيهما بعد هذه المبالغة في الضبط والتعيين والتشخيص لئلا يدخل فيهم من ليس مكتوبا منهم ، «ولا ينقص منهم» ; أي : لئلا يخرج منهم من كتب فيهم «أبدا» ; أي : إلى أبد الآباد وآخر الآماد .

ثم قال للذي في شماله : هذا كتاب من رب العالمين ، فيه أسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا» . تقدم شرح مثل هذه العبارة .

وهذا مقام المستجير العائذ بالله من عقابه وعذابه في ناره ، والسائل منه سبحانه أن يكتبه في كتاب الجنة ، برحمته وكرمه ، اللهم آمين .

فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ عنه ؟» بصيغة المجهول; أي : إذا كان المدار على كتابة الأزل ، فأي فائدة في اكتساب العمل؟ فقال : سددوا» ; أي : اجعلوا أعمالكم مستقيمة على طريق الحق والصواب ، وقاربوا» ; أي : التمسوا قربة الله ، وأطيعوا له . قاله الطيبي .

التالي السابق


الخدمات العلمية