الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2969 3138 - حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا قرة، حدثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم غنيمة بالجعرانة إذ قال له رجل: اعدل. فقال له: "شقيت إن لم أعدل". [ مسلم: 1063 - فتح: 6 \ 238]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه سبعة أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 481 ] أحدها: حديث مروان والمسور أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم: "أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال... ." الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف في الوكالة.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: حديث أبي موسى ساقه من حديث حماد، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، قال: وحدثني القاسم بن عاصم الكليبي - وأنا لحديث القاسم أحفظ - عن زهدم قال: كنا عند أبي موسى... فذكر الحديث وفي آخره: ثم أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنهب إبل، فسأل عنا فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى، ثم ساق (بقيته).

                                                                                                                                                                                                                              والقائل: (وحدثني) القاسم هو أيوب وكليب ورباح ابنا يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. ويأتي في آخر المغازي والذبائح والأيمان والنذور، وأخرجه مسلم أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: حديث: بعث سرية فيها عبد الله قبل نجد، فغنموا إبلا كثيرا، فكانت سهامهم اثني عشر بعيرا - أو أحد عشر بعيرا - ونفلوا بعيرا بعيرا، وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 482 ] رابعها: حديثه أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها: حديث أبي موسى: بلغنا مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن باليمن... الحديث ويأتي أيضا في الهجرة والمغازي، وأخرجه مسلم .

                                                                                                                                                                                                                              سادسها: حديث جابر في البحرين سلف في الهبة والزيادة التي فيه في باب من تكفل عن ميت دينا.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها: حديثه أيضا بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم غنيمة بالجعرانة، إذ قال له رجل: اعدل. فقال له: "لقد شقيت إن لم أعدل" وهو من أفراده.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              هذا القائل هو ذو الخويصرة التميمي كما ذكر ابن إسحاق، رجل من بني تميم.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية أخرى قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. وحديث أبي موسى ليس مطابقا لما ترجم له؛ بل ظاهره يعني الأول: أنه قسم لهم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 483 ] من أصل الغنيمة مع الغانمين، وإن كانوا غائبين تخصيصا لهم لا من الخمس، إذ لو كان منه لم تظهر الخصوصية لعامة المسلمين، والحديث ناطق مما ذكره ابن المنير.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر موسى بن عقبة أنه - عليه السلام - استطاب أنفس الغانمين بما أعطى أصحاب السفينة كما فعل في سبي هوازن، وقيل: إنما أعطاهم مما لا يفتح بقتال مما قد أجلى عنه أهله بالرعب، فصار فيئا؛ لأنه لا يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وبعض خيبر كانت هكذا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخرون منهم ابن حبيب: إنما أعطاهم من الخمس الذي له أن يضعه باجتهاده. قال السهيلي : وقول من قال: إنه أعطى المؤلفة من خمس الخمس مردود؛ لأن هذا ملكه فلا كلام لأحد فيه. وقيل: أعطاهم من رأس الغنيمة، وذلك خصوص به، قال تعالى: قل الأنفال لله والرسول [الأنفال: 1] ويرده ما قيل من نسخها. والذي اختاره أبو عبيد أن إعطاءهم كان من الخمس كما سيأتي.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              غرض البخاري في الباب أن يبين أن إعطاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نوائب المسلمين إنما هو من الفيء والخمس اللذين أمرهما مردود إليه يقسم ذلك بحسب ما يؤدي إليه اجتهاده.

                                                                                                                                                                                                                              وقد أسلفنا مذهب الشافعي في أن الفيء يخمس.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 484 ] والشارع لما تحلل المسلمين من سبي هوازن واستطابهم ووعدهم أن يعوضهم من أول ما يفيء الله عليه إنما أشار إلى الخمس، إذ معلوم أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، فبان أن الخمس لو كان مقسوما على خمسة أسهم لم يف خمس الخمس بما وعد المسلمين أن يعوضهم في سبي هوازن، ذكر أهل السيرة أن هوازن لما أتت لقتاله أتوا بالإبل والنساء والذرية وجميع أموالهم.

                                                                                                                                                                                                                              وذهب البخاري إلى أنه تحلل المسلمين من سباياهم بعد ما كانوا فيئا فأطلقهم لما كان نساء بني سعد ولوا من رضاعه فراعى من قبيلهم حرمة ذلك، كما روعي في المرأة صاحبة المزادتين أنه لم يضرب على الحي الذي كانت منه لدمائها في أخذ الماء منها حتى أسلم جميعهم.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وقد احتج - كما قال المهلب - بعض أصحاب مالك بقصة هوازن في أنه يجوز قرض الجواري إذا رد غيرها، ومنع من ذلك مالك؛ لأنه عنده من باب عارية الفروج وهو حرام.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              الإبل التي حمل عليها الشارع الأشعريين هي أيضا من الخمس، إذ أربعة أخماس الغنيمة للغانمين كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وحديث ابن عمر فيه حجة أن النفل من الخمس كما قال مالك؛ لأنه إنما نفلهم بعيرا بعيرا بعد قسمة السهمان بينهم من غير ما وجبت فيه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 485 ] سهامهم، وهو الخمس. وقاله الطحاوي، قال: وذهب قوم إلى أنه ليس للإمام أن ينفل بعد إحراز الغنيمة إلا من الخمس، فأما غير الخمس فلا؛ لأنه قد ملكه المقاتلة، فلا سبيل للإمام عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن المنذر : روي هذا القول عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي، وذكره أبو عبيد عن مكحول. وعمر بن عبد العزيز قال: والناس اليوم على هذا لا نفل من جملة الغنيمة حتى تخمس. وخالفهم آخرون، كما قال الطحاوي : فقالوا: للإمام أن ينفل من الغنيمة ما أحب بعد إحرازه إياها قبل أن يقتسمها، كما كان له قبل ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن المنذر أنه قول القاسم بن عبد الرحمن، وفقهاء أهل الشام قالوا: الخمس من جملة الغنيمة، والنفل من بعده، ثم الغنيمة بعد ذلك بين أهل العسكر، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق .

                                                                                                                                                                                                                              وحجة هذه المقالة حديث سليمان بن موسى، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفل في بدأته الربع قبل الخمس، فكذلك الثلث الذي ينفله في الرجعة هو الثلث أيضا قبل الخمس وإلا لم يكن لذكر الثلث معنى، وهو حديث أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 486 ] وألزم الدارقطني الشيخين تخريج حديث حبيب بن مسلمة. فيقال: بل له معنى؛ وذلك أن المذكور من نفله في البدأة الربع هو مما يجوز له النفل منه، فكذلك نفله في الرجعة الثلث مما يجوز له النفل منه وهو الخمس، بدليل رواية مكحول عن زياد عن حبيب أنه - عليه السلام - كان ينفل الثلث بعد الخمس.

                                                                                                                                                                                                                              واحتجوا أيضا بحديث سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي سلام، عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة بن الصامت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفلهم إذا خرجوا بادين الربع، وينفلهم إذا قفلوا الثلث، ولا حجة فيه؛ لأنه يحتمل أن معناه: ينفلهم إذا قفلوا الثلث، فيكون ذلك على قول من قال: إلى قتال. فيكون الثلث المنفل هو الثلث قبل الخمس.

                                                                                                                                                                                                                              قال الطحاوي : وذلك جائز عندنا؛ لأنه يرجى بذلك صلاح القوم وتحريضهم على قتال عدوهم، فأما إذا كان القتال قد ارتفع، فلا يكون النفل؛ لأنه لا منفعة للمسلمين في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عبيد في النفل الذي ذكره ابن عمر في قوله: ونفلوا بعيرا بعيرا بعد ذكر السهام: ولا وجه له إلا أن يكون من الخمس، وقد جاء مبينا في حديث مكحول أنه - عليه السلام - نفل يوم خيبر من الخمس. وروى ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، قال: بلغني عن عبد الله بن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 487 ] عمر
                                                                                                                                                                                                                              - رضي الله عنهما - أنه قال: نفل رسول الله سرية بعثها قبل نجد من إبل جاءوا بها نفلا، سوى نصيبهم من المغنم.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله - عليه السلام - يوم خيبر حين أخذ وبرة من جنب بعير ثم قال: "أيها الناس، إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم" يدل أن ما سوى الخمس من المغنم للمقاتلة يوضحه رواية أبي عوانة عن عاصم بن كليب عن أبي الجويرية عن معن بن يزيد السلمي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا نفل إلا بعد الخمس" أي: حتى يقسم الخمس، وإذا قسم انفرد حق المقاتلة، وهو أربعة أخماس، فكان ذلك النفل الذي ينفله الإمام إن آثر ذلك هو في الخمس لا من الأربعة أخماس التي هي حق المقاتلة ولو (أجزنا) النفل قبل ذلك لكان حقهم قد بطل وجوبه، وإنما يجوز النفل مما يدخل في ملك المنفل من ملك العدو، فأما ما قد زال عن ملك العدو قبل ذلك وصار في ملك المسلمين فلا نفل فيه؛ لأنه من مال المسلمين، فثبت بذلك أن لا نفل بعد إحراز الغنيمة.

                                                                                                                                                                                                                              ومما احتج به أصحاب مالك قالوا: إنما لم يجعل مالك النفل من رأس الغنيمة؛ لأن لها معينين، وهم الموجفون، وجعله من الخمس؛ لأن قسمته مردودة إلى اجتهاد الإمام، وأهله غير معينين.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 488 ] وفي حديث ابن عمر رد لقول من قال: إن النفل من خمس الخمس، وإنما في الحديث أنه نفل نصف السدس؛ لأنه بلغت سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث أبي موسى وأهل السفينة، فإن للعلماء في معناه تأويلات أحدها: ما أسلفناه عن موسى بن عقبة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استطاب قلوب الغانمين مما أعطاهم، كما فعل في سبي هوازن، وروي ذلك عن أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                                              روى خثيم بن عراك عن أبيه، عن نفر من قومه أن أبا هريرة قدم المدينة هو ونفر من قومه فوجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خرج إلى خيبر، قال: فقدمنا عليه وقد فتح خيبر، فكلم الناس فأشركنا في سهامهم. وقيل: إنما أعطى من خيبر لأهل الحديبية خاصة. رواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة قال: ما شهدت مغنما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قسم لي، إلا خيبر فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها؛ لأن الله تعالى كان وعدهم بها بقوله: وأخرى لم تقدروا عليها [الفتح: 21] بعد قوله: وعدكم الله مغانم كثيرة [الفتح: 20] وهذا أحد الأقوال

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 489 ] في الآية كما سلف. وقال آخرون: إنما أعطاهم منها مما لم يفتح بقتال، وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخرون: إنما أعطاهم منها من الخمس الذي حكمه حكم الفيء، وله أن يضعه باجتهاده حيث شاء. ويمكن أن يذهب البخاري إلى هذا القول.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وحديث جابر يحتمل أن يكون من الخمس أو الفيء، وكذلك حديث جابر الآخر يحتمل أن يكون من الخمس؛ لأنه إنما أنكر الأعرابي الجاهل ما رأى من التفضيل، وذلك لا يكون في أربعة أخماس الغنيمة، وإنما يكون في الخمس الذي هو موكول إلى اجتهاده - عليه السلام - .

                                                                                                                                                                                                                              قال إسماعيل بن إسحاق: وهذا مما لا يعلم أنه من الخمس، وقد قسمه - عليه السلام - بغير وزن، ثم ساقه من حديث أبي الزبير: سمع جابرا يقول: بصر عيني وسمع أذني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة، وفي ثوب بلال فضة يقبضها للناس يعطيهم، فقال له رجل: اعدل... الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن أبي صفرة: فعله - عليه السلام - في سبي هوازن؛ يدل أن الغنائم على حكم الإمام، وإن رأى أن يصرفها إلى ما هو أوكد وأعظم مصلحة للمسلمين من قسمتها على الغانمين صرفها ولم يعط الغانمين شيئا، كما فعل بمكة، فتحها عنوة، ومن عليهم، ولم يعط أصحابه منها، بل

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 490 ] أبقاها للرحم التي كانت بينه وبينهم، وكذلك أراد أن يفعل بهوازن للرضاعة فيهم حين (أسبيا) بالغنائم، فلما أبطئوا قسم، ثم لما جاءوا، رد بعضا، وأبقى للغانمين بعضا عن طيب أنفسهم، ولم يستطب أنفسهم بمكة؛ لأنه لم يملكهم واستطاب أنفسهم بهوازن؛ لأنه قد كان قسم لهم وملكهم، فصح بهذا أنه لا شيء لهم إلا أن يملكوا.

                                                                                                                                                                                                                              وقد قال مالك: يحد الزاني ويقطع السارق، وإن كان له في الغنيمة سهم إذا فعل ذلك قبل القسمة، فلو كان له فيها شبهة لدرأ الحد بها لحديث: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، فدل أنه لا شبهة لهم فيها إلا أن يملكوها بالقسمة.

                                                                                                                                                                                                                              وحكى الطبري هذه المقالة عن بعض أهل العلم قالوا: حكم الغنائم كلها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغازيه كلها، وله أن يصرفها إلى من يشاء، ويحرمها من حضر القتال ومن لم يحضر، واعتلوا بقوله تعالى: قل الأنفال لله والرسول [الأنفال: 1] وبفعله - عليه السلام - بهوازن، ولم يسم القائلين بذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخرون: أربعة أخماس الغنيمة حق للغانمين؛ لا شيء فيه للإمام، وإنما هو - عليه السلام - كبعض من حضر الوقعة إلا ما كان خصه الله به من الفيء وخمس الخمس، (وأما) غير ذلك فلم يكن له فيه شيء.

                                                                                                                                                                                                                              قالوا: والذي أعطى - عليه السلام - يوم حنين للمؤلفة قلوبهم إنما كان من نصيبه و (حقه) من الغنيمة. وقالوا: وقوله تعالى: قل الأنفال لله والرسول معناه: له وضعها موضعها التي أمره الله بوضعها فيها، لا أنه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 491 ] ملكها ليعمل فيها ما شاء، قالوا: وكيف يجوز أن يكون معنى قوله: والرسول : ملكا له، وهو - عليه السلام - ، يقول يوم صدر من حنين فتناول وبرة من الأرض: "ما لي من مال الله... " إلى آخره.

                                                                                                                                                                                                                              فبين هذا إن ما أعطى المؤلفة ومن لم يشهد الوقعة إنما كان من نصيبه وحقه من الغنيمة خاصة. وقال أبو عبيد: مكة لا تشبه شيئا من البلاد، وذلك أنه - عليه السلام - سن بمكة شيئا لم يسنه في سائر البلاد، قالت له عائشة : ألا تبني لك بيتا يظلك من الشمس بمنى؟ فقال: "لا، منى مناخ من سبق".

                                                                                                                                                                                                                              وقال عبد الله بن عمرو: من أكل من أجور بيوت مكة، فإنما يأكل في بطنه نار جهنم. وكره أهل العلم كراء بيوتها. وقال ابن عباس وابن عمر : الحرم كله مسجد.

                                                                                                                                                                                                                              وقال مجاهد: مكة مناخ لا يباع رباعها، ولا تؤخذ أجور بيوتها، ولا تحل ضالتها إلا لمنشد.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عبيد: فإذا كان حكم مكة أنها مناخ من سبق، وأنها مسجد جماعة المسلمين ولا تباع (رباعها) ولا يطيب كراء بيوتها، فكيف يقاس غيرها عليها.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: جوز الشافعي بيع دورها وإجارتها بناء على أنها فتحت صلحا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 492 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قول البخاري : "إن الخمس لنوائب المسلمين". قد علمت اختلاف العلماء فيه.

                                                                                                                                                                                                                              وقول مالك: إن حكم الإمام يعطي منه ذوي القربى واليتامى ومن ذكر معهم بقدر اجتهاده ليس على أن لكل صنف منهم جزءا، زاد إسماعيل: له أن يعطي منه جميع المسلمين، ذكره الداودي .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف (قوله) في كيفية قسمته، فقال مرة: على الاجتهاد، وقال أخرى: على قسم المواريث للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك (بعد) أن يبدأ بإصلاح الأسوار والقناطر وما يعم المسلمين نفعه، ويخشى عليهم من إضاعته، والشافعي يقول: تقسم على خمسة - كما سلف - وسهمه - عليه السلام - يصرفه فيما كان - عليه السلام - يصرفه فيه، وروي أنه كان يصيره لقوة المسلمين.

                                                                                                                                                                                                                              وعند أبي حنيفة : يقسم على ثلاثة: للفقراء، والمساكين، وابن السبيل؛ لأنه - عليه السلام - قال: "لا نورث؛ ما تركنا صدقة". وقيل: إن رأى أن يعطي غير هؤلاء أعطاهم، وإنما ذكر هؤلاء لأنهم أهم من يعطى، كما قال تعالى: قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين [البقرة: 215] وهذا مذهب مالك المعروف عنه، كما قاله ابن التين، وسلف ما ذكره الداودي عنه.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: يقسم الخمس على ستة أسهم: سهم لله يصرف في الكعبة، وقيل: معنى قوله: فأن لله خمسه [الأنفال: 41] افتتاح كلام، وقد

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 493 ] سبق: ليس لله نصيب، له الدنيا والآخرة. وقيل: المعنى: الحكم فيه لله وللرسول، ويقسم على أربعة. وفيه بعد؛ لأنه كان يعطي منه المؤلفة قلوبهم وغيرهم، وقد قال: "ما لي فيما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم".

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وفي قصة هوازن سبي مشركي العرب، وفيه الاستثناء بقسمة الغنيمة. ومعنى "جاءونا تائبين" مسلمين.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: اتخاذ العرفاء وقبول خبر الواحد.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي في حديث أبي موسى: إن اسم الدجاجة يقع على الذكر والأنثى من الدجاج، ولا ندري من أين أخذه، قال: وقوله: (أحمر كأنه من الموالي) - يعني: من سبي الروم. و (تيم الله): قبيلة من العرب.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فقذرته)، أي: بكسر الذال تقذرته، والقاذورة: الذي يتقذر الشيء فلا يأكله. وفي الحديث: كان - عليه السلام - لا يأكل قاذورة الدجاج حتى تعلف.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن فارس : قذرت شيئا قذرا: كرهته.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 494 ] وقوله: (بنهب إبل) يعني: غنيمة، والنهب: المغنم. وكان الصديق يوتر قبل أن ينام ويقول: أحرزت نهبي، يريد: سهمه من الغنيمة.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (غر الذرى) أي: بيض الأسنمة من سمنهن وكثرة شحومهن، والذرى جمع ذروة، وذروة كل شيء أعلاه.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: خوفهم أن يأخذوا ما لا يسوغ لهم أخذه مع نسيان رسول الله.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "لست أنا حملتكم، ولكن الله حملكم" يحتمل وجوها:

                                                                                                                                                                                                                              أبينها: إزالة المنة عنهم، وإضافة النعمة إلى مالكها الحقيقي، ولو لم يكن له في ذلك صنيع ما كان لقوله: "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها" وجه.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: أن يكون أنسيها، والناسي كالمضطر، وفعله غير مضاف إليه، إنما يضاف إلى الله.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: أن الله حملكم حين ساق هذا النهب، ورزق هذا المغنم، وقد كنت عجزت عن حملكم.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: أن يكون نوى في ضميره إلا أن يرد عليه مال في الحال فيحملهم عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" يريد: الكفارة، يقال: تحلل الرجل من يمينه إذا استثنى، وقال: إن شاء الله، قال النمر: وأرسل أيماني ولا أتحلل.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى التحلل: التفضي من عهدة اليمين، والخروج من حرمتها إلى ما يحل له منها، وقد يكون ذلك مرة بالاستثناء ومرة بالكفارة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : (فكانت سهمانهم اثني

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 495 ] عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا) يحتمل أنه شك في سهامهم، أو أنه شك هل كانت اثني عشر، ونفلوا بعيرا (بعيرا زائدا)، أو بلغت بالنافلة اثني عشر، غير أنه يعود من جهة العدد إلى معنى واحد.

                                                                                                                                                                                                                              وبين البخاري في غير طريق مالك: أنه بلغت سهمانهم اثني عشر بعيرا، ونفلوا بعيرا، فرجعوا بثلاثة عشر بعيرا ذكرها في المغازي. ومالك كان كثير التوقي في الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: جواز النفل، وقيل: إنه إجماع.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أنه من الخمس، خلافا للشافعي حيث قال: من خمس الخمس؛ لأنه إذا أخذ كل واحد اثني عشر بعيرا، وأخذ الإمام خمسها ثلاثة، فخمس الثلاثة لا يبلغ بعيرا، فلو لم يكن النفل من جملة الثلاثة التي هي خمس ما صح أن يعطيه بعيرا، وعلى هذا الحساب قلوا أو كثروا.

                                                                                                                                                                                                                              وانفصل بعض أصحابنا الشافعية عنه بوجوه:

                                                                                                                                                                                                                              منها أن الغنيمة كان فيها أذهاب وأمتعة.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: أن الإمام يتصرف في سهمه من سائر الغزوات كيف شاء، فيجوز أن يكون نفلهم من سهمه من هذه الغزاة وغيرها.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: أنه نفل بعضهم ولم ينفل جميعهم، يعني: أن النفل كان في بعضهم. وظاهر الحديث يرده.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 496 ] وقد روي: أنهم كانوا عشرة غنموا مائة وخمسين بعيرا، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها ثلاثين، وأخذوا هم عشرين ومائة؛ أخذ كل واحد منها اثني عشر بعيرا، ونفل بعيرا. فلو كان النفل من خمس الخمس لم يعمهم ذلك، وسيأتي في المغازي غير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              قال بعضهم: وليس للإمام أن ينفل إلا عند الحاجة إليه؛ لأنه - عليه السلام - لم ينفل في كثير من غزواته.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: يكون النفل من رأس الغنيمة، والحديث يرده؛ ولأن الأخماس الأربعة ملك للغانمين يساوى بينهم فيه، لا يزاد واحد لغناء ولا لقتال.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              وما حكاه أبو موسى من قسمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم وهم غيب، فقد أسلفنا فيه وجوها: إما بالرضى، أو من الخمس. وقد أسهم لعثمان يوم بدر وقال: "اللهم إن عثمان في حاجة نبيك" وعند أبي حنيفة : أن من دخل دار الحرب قبل انفصال الجيش منها أن له سهمه، ولعله تعلق في ذلك بظاهر هذا الحديث. وقوله: فوافقنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر، أي: صادفناه ووافيناه. وقال - عليه السلام - : "لا أدري بأيهما أفرح، بقدوم جعفر أو بفتح خيبر".

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "لقد شقيت إن لم أعدل" ويروى بفتحها، ومعناه: خبت أنت إن لم يعدل نبيك، ومن أنت متبعه، وإنما كان - عليه السلام - يعطي بالوحي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 497 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي : والذي ذكره البخاري من فقه جابر ليس هو من الخمس، إنما هو من مال أتى من البحرين، لم يكن من مغنم.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وقوله: (حثا لي بيديه)، وقال مرة: (حثية)، وفي غير هذا الموضع: حفنة. قال فعلى ما هنا يسمى ما يؤخذ باليدين حثية، والمعروف عند أهل اللغة أن الحثية ما يملأ بالكف الواحدة، وأن الحفنة ما يحفن باليدين، قال ابن القاسم : الحفنة باليد الواحدة، وهذا آخر كلامه، وتعقبه ابن التين فقال: الذي ذكره الهروي عن القتبي: الحثية والحفنة شيء واحد، يقال: حفن القوم المال وحثا لهم، إذا أعطى كل واحد منهم حفنة أو حثوة، قال ابن فارس : الحفنة ملء كفيك.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وقوله: (فحثا لي حثية). صوابه: حثوة بالواو. إلا أن ابن فارس قال: حثا التراب يحثوه، وحثا يحثي حثيا، مثله. فصار في ذلك لغتان.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية