الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يوضح هذا الجواب الثالث: وهو أن نقول: قول القائل: الممكن الذي لم يوجد هو معدوم ليس بموجود أصلا، والمعدوم الذي لم يحصل له ما يقتضي وجوده هو باق مستمر على العدم. وإذا قال القائل: الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح فهذا بين ظاهر في جانب الإثبات، فإنه لا يكون موجودا إلا بمقتضي لوجوده، إذا كان ليس له من نفسه وجود.

وأما في النفي فمن الناس من يقول: علة عدمه عدم علة وجوده، ويجعل لعدمه علة كما لوجوده علة، وهذا قول ابن سينا وأتباعه. والتحقيق الذي عليه جمهور النظار من المتكلمين والمتفلسفين. [ ص: 153 ] وهو الآخر من قولي الرازي، أن عدمه لا يفتقر إلى علة تجعله معدوما، فالعدم المحض لا يعلل ولا يعلل به، إذ العدم المحض المستمر لا يفتقر إلى فاعل ولا علة، ولكن عدم علته مستلزم لعدمه ودليل على عدمه، فإذا أريد بعلة عدمه ما يستلزم عدمه ويدل على عدمه، فهو صحيح، وإن أريد بعلة عدمه تحقق العدم الذي يفتقر في تحقق إلى علة موجبة له، فليس كذلك. فإن العدم المستمر لا يفتقر إلى علة موجبة.

فقول القائل: الممكن لا يوجد إلا بمرجح، بمنزلة قوله: لا يوجد بنفسه، لا يوجد إلا بغيره، ولا يحتاج أن يقول: ما لا يوجد بنفسه لا يعدم إلا بغيره، فإن ما لا يوجد بنفسه فليس له من نفسه وجود.

وإذا قلت: له من نفسه العدم، فهذا له معنيان: إن أردت أن حقيقة مستلزمة للعدم لا تقبل الوجود، فليس كذلك، بل هي قابلة للوجود والعدم، وإن أردت أن حقيقته لا تقتضي الوجود، بل ليس لها من نفسها غير العدم، وأن وجودها لا يكون إلا من غيرها لا من نفسها، فهذا صحيح، فالفرق بين كونه ليس له من نفسه إلا العدم، وبين كون نفسه مستلزمة للعدم، فرق بين، مع أن قولنا: له [ ص: 154 ] من نفسه وليس له من نفسه، لا نريد به أنه في الخارج نفس ثابتة ليس لها إلا العدم، أو هي مستلزمة للعدم، فإن هذا يتخيله من يقول: المعدوم شيء ثابت في الخارج، أو يقول: الماهيات في الخارج أمور مغايرة للوجود المحقق في الخارج، وهذا كله خيال باطل، كما قد بسط في موضعه.

ولكن الماهية والشيء قد يقدر في الذهن قبل وجوده في الخارج، وبعد ذلك فما في الأذهان مغاير لما في الأعيان.

وإذا قلنا: هذا الممكن يقبل الوجود والعدم، أو نفسه أو حقيقته لا تقتضي الوجود ولا تستلزم العدم، فنعني به أن ما تصوره العقل من هذه الحقائق لا يكون موجودا في الخارج بنفسه، وليس له في الخارج وجود من نفسه، ولا يجب عدمه في الخارج، بل يقبل أن تتحقق حقيقته في الخارج فيصير موجودا، ويمكن أن لا تتحقق حقيقته في الخارج فلا يكون موجودا، وليس في الخارج حقيقة ثابتة أو موجودة تقبل الإثبات والنفي، بل المراد أن ما تصورناه في الأذهان: هل يتحقق في الأعيان أو لا يتحقق؟ وما تحقق في الأعيان هل تحققه بنفسه أو بغيره؟

فإذا قدر أن المتصورات في الأذهان ليس فيها ما يتحقق بنفسه في الخارج، فليس فيها ما هو مبدع بنفسه لغيره في الخارج بطريق الأولى، [ ص: 155 ] وليس فيها إلا ما هو معدوم في الخارج، بل ليس فيها إلا ما هو ممتنع في الخارج، فإن الممكن إذا قدر عدم موجود بنفسه يبدعه كان ممتنعا لغيره، فإذا قدر أنه ليس في الخارج إلا ما ليس له وجود بنفسه، لم يكن في الخارج إلا ما هو ممتنع الوجود، إما لنفسه وإما لغيره، ولا يكون عدم شيء من ذلك مفتقرا إلى علة توجب عدمه، بل هو معدوم بنفسه، سواء أمكن وجوده أو امتنع، وحينئذ فلا يكون في الخارج إلا العدم المستمر.

وإذا قيل، بعد هذا: هذا الذي لا وجود له من نفسه موجود، بهذا الذي لا وجود له من نفسه، وهلم جرا، كان بمنزلة أن يقال: هذا المعدوم موجود بهذا المعدوم، وهلم جرا، بل بمنزلة أن يقال: هذا الممتنع موجود بهذا الممتنع، فيكون هذا تناقضا حيث جعلت المعدوم موجودا بمعدوم، وسلسلت ذلك فجمعت بين تسلسل المعدومات وبين جعل كل واحد منها هو الذي أوجد المعدوم الآخر.

التالي السابق


الخدمات العلمية