الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 338 ] العيب في المنكوحة ، من كتاب نكاح الجديد ، ومن النكاح القديم ، ومن النكاح والطلاق ، إملاء على مسائل مالك ، وغير ذلك

                                                                                                                                            قال الشافعي رحمه الله تعالى : أخبرنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أيما رجل تزوج امرأة ، وبها جنون أو جذام أو برص ، فمسها ، فلها صداقها ، وذلك لزوجها غرم على وليها ، وقال أبو الشعثاء : أربع لا يجزن في النكاح إلا أن تسمى : الجنون ، والجذام ، والبرص ، والقرن .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن النكاح يفسخ بالعيوب ، والعيوب التي يفسخ بها النكاح تستحق من الجهتين فيستحقها الزوج إذا وجدت بالزوجة ، وهي خمسة عيوب : الجنون ، والجذام ، والبرص ، والقرن والرتق ، وتستحقها الزوجة إذا وجدتها بالزوج ، وهي خمسة : الجنون والجذام والبرص والجب والعنة ، فيشتركان في الجنون والجذام والبرص ، وتختص الزوجة بالقرن والرتق ، ويختص الزوج بالجب والعنة ، ولا يفسخ نكاحهما بغير هذه العيوب ، من عمى أو زمانة أو قبح أو غيره .

                                                                                                                                            وبه قال من الصحابة عمر ، وابن عباس ، وعبد الله بن عمر .

                                                                                                                                            ومن التابعين : أبو الشعثاء جابر بن زيد .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء : الأوزاعي ، ومالك .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : ليس للزوج أن يفسخ النكاح بشيء من العيوب ، ولا للمرأة أن تفسخ إلا بالجب والعنة دون الجنون والجذام والبرص ، وبأن لا يفسخ النكاح بعيب .

                                                                                                                                            قال علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ، وقال أبو الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح : للزوجة أن تفسخ بهذه العيوب في الزوج ، وليس للزوج أن يفسخ بها : لأن الطلاق بيده .

                                                                                                                                            واستدل من نصر قول أبي حنيفة بأن المعقود عليه في النكاح هو الاستباحة ، وليس في الاستباحة عيب ، وإنما العيب في المستبيحة فلم يشتبه خيار إسلامه المعقود عليه ، قال : ولأنه عيب في المنكوحة فلم يفسخ نكاحها قياسا على ما سوى العيوب الخمسة ، قال : ولأن كل عقد لم يفسخ بنقصان الأجزاء لم يفسخ بتغير الصفات كالهبة طردا والبيوع عكسا .

                                                                                                                                            قال : ولأن عقد النكاح إن جرى مجرى عقود المعاوضات كالبيوع وجب أن يفسخ بكل عيب ، وإن جرى مجرى غيرها من عقود الهبات والصلات وجب أن لا يفسخ بعيب ، وفي إجماعهم على أن لا يفسخ بكل العيوب دليل على أنه لا يفسخ بشيء من العيوب .

                                                                                                                                            [ ص: 339 ] ودليلنا : ما رواه عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة ، فوجد بكشحها بياضا فردها ، وقال : دلستم علي .

                                                                                                                                            ووجه الدليل منه هو أنه لما نقل العيب والرد ، وجب أن يكون الرد لأجل العيب .

                                                                                                                                            فإن قيل : فيحمل على أنه طلقها لأجل العيب كالتي قالت له حين تزوجها : أعوذ بالله منك ، فقال : لقد استعذتي بمعاذ فالحقي بأهلك ، فكان ذلك طلاقا منه : لأجل استعاذتها منه ، قيل : لا يصح هذا التأويل من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لأنه خالف الظاهر : لأن نقل الحكم مع السبب يقتضي تعلقه به كتعلق الحكم بالعلة ، والطلاق لا يتعلق بالعيب كتعلق الحكم بالعلة ، وإن كان داعيا إليه فلم يصح حمله عليه ، وخالف حال طلاقه للمستعيذة : لأن الاستعاذة ليست عيبا يوجب الرد ، فعدل به إلى الطلاق .

                                                                                                                                            والثاني : أن الرد صريح في الفسخ ، وكناية في الطلاق ، وحمل اللفظ على ما هو صريح فيه .

                                                                                                                                            وروى أبو جعفر المنصور ، عن أبيه ، عن جده ، عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجتنبوا من النكاح أربعة : الجنون ، والجذام ، والبرص ، والقرن فدل تخصيصه لهذه الأربعة من عيوب النكاح على اختصاصها بالفسخ .

                                                                                                                                            ومن طريق القياس : هو أنه عيب يمنع غالب المقصود بالعقد ، فجاز أن يثبت به خيار الفسخ كالجب ، ولا يدخل عليه الصغر والمرض : لأنهما ليسا بعيب ، ولأن العقد الذي يلزم من الجهتين إذا احتمل الفسخ وجب أن يجري الفسخ في جنس العقد ، ولأنه عيب مقصود بعقد النكاح فوجب أن يستحق الفسخ كالعيب في الصداق ، ولأن كل من ملك رد عوض ملك عليه رد المعوض كالثمن والمثمن في البيع .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الاستدلال بأن المعقود عليه هو الاستباحة ، وليس فيها عيب ، فهو أن هذا فاسد : لأن المعقود عليه هو الاستمتاع المستباح ، وهذه عيوب فيه كما أن زمانة العبد المستأجر عيب في منافعه فاستحق بها الفسخ .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على ما سوى الخمسة من العيوب ، فالمعنى فيه أن تلك العيوب لا تمنع مقصود العقد ، ولا تنفر النفوس منها ، وليس كذلك هذه الخمسة : لأنها إما مانعة من المقصود ، أو منفرة للنفوس فافترقا .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الهبة بعلة أنها لا تفسخ بنقصان الأجزاء فهذا الوصف غير مسلم : لأنه يستحق بالجب ، وهو نقصان جزء ، ثم المعنى في الهبة ، أنه لا عوض فيها فيلحقه ضرر [ ص: 340 ] بالعيب ، والنكاح بخلافه ، وعلى أن فسخه بالعنت وهو يعتبر صفة تمنع من اطراد هذا التعليل .

                                                                                                                                            فأما استدلالهم بأنه إما أن يفسخ بكل العيوب كالبيوع أو لا يفسخ الشيء منها كالهبات .

                                                                                                                                            فالجواب عنه : أنه بالبيوع أخص : لأنهما عقدا معاوضة غير أن جميع العيوب تؤثر في نقصان الثمن فاستحق بجميعها الفسخ ، وليس كل العيوب تؤثر في نقصان الاستمتاع ، فلم يتسحق بجميعها الفسخ .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية