الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : وجد يخطف العبد من يد الكونين . ويمحص معناه من درن الحظ ، ويسلبه من رق الماء والطين ، إن سلبه أنساه اسمه . وإن لم يسلبه أعاره رسمه .

[ ص: 74 ] فقوله " يخطف العبد من يد الكونين " أي يغنيه عن شهود ما سوى الله من كوني الدنيا والآخرة . فيختطف القلب من شهود هذا وهذا بشهود المكون .

قوله " ويمحص معناه من درن الحظ " أي يخلص عبوديته التي هي حقيقته وسره من وسخ حظوظ نفسه وإراداتها المزاحمة لمراد ربه منه . فإن تحقيق العبودية - التي هي معنى العبد - لا يكون إلا بفقد النفس الحاملة للحظوظ . فمتى فقدت حظوظها تمحصت عبوديتها . وكلما مات منها حظ حيي منها عبودية ومعنى . وكلما حيي فيها حظ ماتت عبودية ، حتى يعود الأمر على نفسين وروحين وقلبين : قلب حي ، وروح حية بموت نفسه وحظوظها ، وقلب ميت ، وروح ميتة بحياة نفسه وحظوظه . وبين ذلك مراتب متفاوتة في الصحة والمرض ، وبين بين ، لا يحصيها إلا الله عز وجل .

قوله " ويسلبه من رق الماء والطين " أي يعتقه ويحرره من رق الطبيعة والجسم المركب من الماء والطين ، إلى رق رب العالمين ، فخادم الجسم الشقي بخدمته عبد الماء والطين ، كما قيل :


يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

والناس في هذا المقام ثلاثة : عبد محض . وحر محض ، ومكاتب قد أدى بعض كتابته . وهو يسعى في بقية الأداء .

فالعبد المحض : عبد الماء والطين الذي قد استعبدته نفسه وشهوته ، وملكته وقهرته . فانقاد لها انقياد العبد إلى سيده الحاكم عليه .

والحر المحض : هو الذي قهر شهوته ونفسه وملكها . فانقادت معه ، وذلت له ودخلت تحت رقه وحكمه .

والمكاتب : من قد عقد له سبب الحرية . وهو يسعى في كمالها . فهو عبد من وجه حر من وجه . وبالبقية التي بقيت عليه من الأداء يكون عبدا ما بقي عليه درهم . فهو عبد ما بقي عليه حظ من حظوظ نفسه .

فالحر من تخلص من رق الماء والطين . وفاز بعبودية رب العالمين ، فاجتمعت له العبودية والحرية . فعبوديته من كمال حريته ، وحريته من كمال عبوديته .

قوله : إن سلبه أنساه اسمه ، وإن لم يسلبه أعاره رسمه ، أي هذا الوجد إن سلب [ ص: 75 ] صاحبه بالكلية : فأفناه عنه ، وأخذه منه : أنساه اسمه . لأن الاسم تبع للحقيقة . فإذا سلب الحقيقة نسي اسمها ، وإن لم يسلبه بالكلية ، بل أبقى منه رسما ، فهو معار عنده بصدد الاسترجاع . فإن العواري يوشك أن تسترد . ويشير بالأول : إلى حالة الفناء الكامل . وبالثاني : إلى حالة الغيبة التي يؤوب منها غائبها . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية