الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 217 ] لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم

                          هذه الآيات تذكير للمؤمنين بنصر الله لهم على أعدائهم في مواطن القتال الكثيرة معهم ، إذ كان عددهم وعتادهم قليلا لا يرجى معه النصر بحسب الأسباب والعادة ، وابتلائه إياهم بالتولي والهزيمة يوم حنين على عجبهم بكثرتهم ورضاهم عنها ، ونصرهم من بعد ذلك بعناية خاصة من لدنه - ; ليتذكروا أن عنايته تعالى وتأييده لرسوله وللمؤمنين بالقوى المعنوية ، أعظم شأنا وأدنى إلى النصر من القوة المادية ، كالكثرة العددية وما يتعلق بها ، وجعل هذا التذكير تاليا للنهي عن ولاية آبائهم وإخوانهم من الكفار ، وللوعيد على إيثار حب القرابة والزوجية والعشيرة " ولو كانوا مؤمنين " والمال والسكن على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله ، تفنيدا لوسوسة شياطين الجن والإنس - من المنافقين ومرضى القلوب - لهم ، وإغرائهم باستنكار عود حالة الحرب مع المشركين ، وتنفيرهم من قتالهم لكثرتهم ، ولقرابة بعضهم ، ولكساد التجارة التي تكون معهم ، وذلك بعد إقامة الدلائل على كون ذلك من الحق والعدل والمصلحة العامة في الدين والدنيا ، وفي هذه الغزوة من العبر والحكم والأحكام ما ليس في غيرها ، وسنبين المهم منه في إثر تفسير الآيات ، قال عز وجل : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة الظاهر أن هذا الخطاب مما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقوله لجماعة المسلمين بالتبع لما قبله ، وفيهم بقية من المنافقين وضعفاء الإيمان ، ولم يعطف عليه; لأنه بيان مستأنف لإقامة الحجة على صحة ما قبله من نهي ووعيد ، وأن الخير والمصلحة للمؤمن في ترك ولاية أولي القربى من الكافرين ، وفي إيثار حب الله ورسوله ، والجهاد في سبيله على حب أولي القربى والعشيرة والمال والسكن مما يحب للقوة والعصبية وللتمتع بلذات [ ص: 218 ] الدنيا ، فإن نصر الله تعالى لهم في تلك المواطن الكثيرة لم يكن بقوة عصبية أحد منهم ، ولا بقوة المال ، وما يأتي به من الزاد والعتاد ، وقد ترتب عليه من القوة والعزة والثروة ما لم يكن لهم مثله من قبل ، ثم ترتب عليه من السيادة والملك بطاعة الله ورسوله ما هو أعظم من ذلك فيما بعد ، ثم يكون له من الجزاء في الآخرة ما هو أعظم وأدوم . وإنما ذلك من فضل الله عليهم بهذا الرسول الذي جاءهم بهذا الدين القويم .

                          والمواطن جمع موطن ، وهي مشاهد الحرب ومواقعها ، والأصل فيه مقر الإنسان ومحل إقامته كالوطن . ووصفها بالكثيرة; لأنها تشمل غزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأكثر سراياه التي أرسل فيها بعض أصحابه ، ولم يخرج معهم ، ولا يطلق اسم الغزوة - ومثلها الغزاة والمغزى - إلا على ما تولاه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنفسه من قصد الكفار إلى حيث كانوا من بلادهم أو غيرها .

                          روى البخاري ومسلم في كتاب المغازي من صحيحهما عن أبي إسحاق السبيعي أنه سأل زيد بن أرقم : كم غزا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غزوة ؟ قال: تسع عشرة . وسأله : كم غزا معه ؟ قال: سبع عشرة ، قال الحافظ في شرح الحديث من أول الكتاب عند قوله تسع عشرة : كذا قال ، ومراده الغزوات التي خرج فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنفسه سواء قاتل أو لم يقاتل ، لكن روى أبو يعلى من طريق أبي الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون . وإسناده صحيح وأصله في مسلم . فعلى هذا ، ففات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها ، ولعلها الأبواء وبواط ، وكأن ذلك خفي عليه لصغره اهـ .

                          ثم ذكر الحافظ عن موسى بن عقبة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاتل بنفسه في ثمان : بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم المصطلق ثم خيبر ثم مكة ثم حنين ثم الطائف ، ( قال ) وأهمل غزوة قريظة ; لأنه ضمها إلى الأحزاب; لكونها كانت في أثرها ، وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب . وكذا وقع لغيره عد الطائف وحنين واحدة لتقاربهما ، فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم وقول جابر . وقد توسع ابن سعد فبلغ عدد المغازي التي خرج فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنفسه سبعا وعشرين ، وتبع في ذلك الواقدي ، وهو مطابق لما عده ابن إسحاق ، إلا أنه لم يفرد وادي القرى من خيبر ، أشار إلى ذلك السهيلي ، وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل . إلخ . ووضح الحافظ هذا البسط من جانب ، وتدخل بعض المغازي المتقاربة في بعض من جانب آخر ، فكان خير جمع بين الأقوال .

                          ثم قال : وأما البعوث والسرايا فعند ابن إسحاق ستا وثلاثين ، وعند الواقدي [ ص: 219 ] ثمانيا وأربعين ( كذا ) وحكى ابن الجوزي في التلقيح ستا وخمسين ، وعند المسعودي ستين ، وبلغها شيخنا زيادة على السبعين ، ووقع عند الحاكم في الإكليل أنها تزيد على مائة فلعله أراد ضم المغازي إليها . اهـ . واختار بعض العلماء أن المغازي والسرايا كلها ثمانون .

                          ومن المعلوم أنه لم يقع فيها كلها قتال فيقال إنه تعالى نصرهم فيها ، كما أن من المعلوم أنه تعالى نصرهم في كل قتال إما نصرا عزيزا مؤزرا كاملا وهو الأكثر ، ولاسيما بدر والخندق وغزوات اليهود والفتح ، وإما نصرا مشوبا بشيء من التربية على ذنوب اقترفوها كما وقع في أحد إذ نصرهم الله أولا ، ثم أظهر العدو عليهم بمخالفتهم أمر القائد الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في أمر من أهم أوامر الحرب ، وهو حماية الرماية لظهورهم كما تقدم تفصيله في سورة آل عمران وتفسيرها - وكما كان في حنين من الهزيمة في أثناء المعركة ، والنصر العزيز التام في آخرها ، وهو ما بينه تعالى بقوله : ويوم حنين أي: ونصركم يوم حنين أيضا ، وهو واد إلى جانب ذي المجاز قريب من الطائف ، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات ، هذا ما اعتمده الحافظ في الفتح وغيره ، وقيل : إن بينه وبين مكة ست ليال . وعن الواقدي ثلاث ليال . وفي روح المعاني للآلوسي أنه على ثلاثة أميال من الطائف . وتسمى هذه الغزوة أوطاسا وغزوة هوازن . وأوطاس كما في معجم البلدان واد في أرض هوازن كانت فيه وقعة حنين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببني هوازن ، ومثله في القاموس ، وقد عقد البخاري في صحيحه بابا لغزوة أوطاس بعد سوق الروايات في غزوة حنين . وقال الحافظ في الكلام على هذه الترجمة : قال عياض : هو واد في دار هوازن ، وهو موضع حرب حنين . اهـ . وهذا الذي قاله ذهب إليه بعض أهل السير ، والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين . ويوضح ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن الواقعة كانت في وادي حنين ، وأن هوازن لما انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف ، وطائفة إلى بجيلة ، وطائفة إلى أوطاس ، فأرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عسكرا مقدمهم أبو عامر الأشعري إلى من مضى إلى أوطاس كما يدل عليه حديث الباب ، ثم توجه هو وعساكره إلى الطائف . وقال أبو عبيد الله البكري : أوطاس واد في دار هوازن ، وهناك عسكروا هم وثقيف ثم التقوا بحنين اهـ .

                          وقال ابن القيم في الاسمين : وهما موضعان بين مكة والطائف ، فسميت الغزوة باسم مكانها ، وتسمى غزوة; لأنهم هم الذين أتوا لقتال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اهـ .

                          [ ص: 220 ] والأولى أن يقال : إنها سميت باسمهم; لأنها وقعت بأرضهم ، ولأنهم هم الذين جمعوا جموع العرب من القبائل الأخرى لقتاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكانوا هم الموقدين لنار الحرب والمقصودين بها .

                          وقوله تعالى : إذ أعجبتكم كثرتكم بدل من " يوم حنين " أو عطف بيان له ، وحاصل معناه مع ما سبقه أنه نصركم في مواطن كثيرة ما كنتم تطمعون فيها بالنصر بمحض استعدادكم وقوتكم; لقلة عددكم وعتادكم ، ونصركم أيضا في يوم حنين ، وهو اليوم الذي أعجبتكم فيه كثرتكم إذ كنتم اثني عشر ألفا ، وكان الكافرون أربعة آلاف فقط ، فقال قاتلكم معبرا عن رأي الكثيرين الذين غرتهم الكثرة : لن نغلب اليوم من قلة . وقد زعم بعض رواة السيرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي قال هذا القول ، ورده الرازي بأنه غير معقول ، ونرده أيضا بأن المنقول الصحيح خلافه ، وهو ما رواه يونس بن بكير في زيادات المغازي عن الربيع بن أنس ، قال : قال رجل يوم حنين : لن نغلب اليوم من قلة . فشق ذلك على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانت الهزيمة . اهـ . أي وقعت بأسبابها فكانت عقوبة على هذا الغرور والعجب الذي تشير إليه الكلمة ، وتربية للمؤمنين حتى لا يعودوا إلى الغرور بالكثرة ; لأنها ليست إلا أحد الأسباب المادية الكثيرة للنصرة ، وما تقدم بيانه من الأسباب المعنوية في سورة الأنفال أعظم ، وقد قال تعالى حكاية عن المؤمنين الكاملين الذين يعلمون قيمة أسباب النصر المعنوية كالصبر والثقة بالله والاتكال عليه : قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ( 2 : 249 ) وكذلك وقعت الهزيمة بأسبابها في يوم أحد عقوبة وتربية كما تقدم في محله .

                          فلم تغن عنكم شيئا أي: فلم تكن تلك الكثرة التي أعجبتكم وغرتكم كافية لانتصاركم بل لم تدفع عنكم شيئا من عار الغلب والهزيمة وضاقت عليكم الأرض بما رحبت أي: ضاقت عليكم الأرض برحبها وسعتها فلم تجدوا لكم فيها مذهبا ولا ملتحدا ثم وليتم مدبرين أي وليتم ظهوركم لعدوكم مدبرين لا تلوون على شيء .

                          ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين السكينة: اسم للحالة والهيئة النفسية الحاصلة من السكون والطمأنينة ، وهي ضد الاضطراب والانزعاج ، وتطلق كما في المصباح على الرزانة والمهابة والوقار . والمعنى : أن الله تعالى أفرغ من سماء عزته وقدرته سكينته اللدنية على رسوله بعد أن عرض له ما عرض من الأسف والحزن على أصحابه عند وقوع الهزيمة لهم ، على أنه ثبت كالطود الراسي نفسا ، ولم يزدد إلا شجاعة وإقداما وبأسا [ ص: 221 ] وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه وأحاطوا ببغلته وقليل ما هم في ذلك الجيش اللهام كما يعلم هذا وذاك من الروايات الصحيحة الآتية ، ثم على سائر المؤمنين الصادقين فأذهب روعهم ، وأزال حيرتهم واضطرابهم ، وعاد إليهم ما كان زال أو زلزل من ثباتهم وشجاعتهم ، ولاسيما عند ما سمعوا نداءه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونداء العباس يدعوهم إلى نبيهم بأمره كما يأتي ، وإنما قال : وعلى المؤمنين ولم يقل " وعليكم " ; لأن الخطاب للجماعة وفيهم بقية من المنافقين وضعفاء الإيمان كما تقدم ، وستأتي شواهده في الروايات الصحيحة . فيا لله العجب من هذه الدقة في بلاغة القرآن وأنزل جنودا لم تروها أي: وأنزل مع هذه السكينة جنودا روحانية من الملائكة لم تروها بأبصاركم ، وإنما وجدتم أثرها في قلوبكم ، بما عاد إليها من ثبات الجأش ، وشدة البأس وعذب الذين كفروا في الدنيا بكفرهم ، ما داموا يستحبون الكفر على الإيمان ، ويعادون أهله ويقاتلونهم عليه ، كما وعدكم فيمن بقي منهم بقوله من هذا السياق أو البلاغ : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ( 14 ) الآية . ويدخل في هذا الجزاء من كان حاله مثل حال أولئك الكافرين في قتال من كان على هدي أولئك المؤمنين إلى يوم الدين .

                          ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ثم يتوب الله تعالى بعد هذا التعذيب الذي يكون في الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام ، وهم الذين لم تحط بهم خطيئات جهالة الشرك وخرافاته من جميع جوانب أنفسهم ، ولم يختم على قلوبهم بالإصرار على الجحود والتكذيب ، أو الجمود على ما ألفوا بمحض التقليد ، والله غفور لمن يتوب عن الشرك والمعاصي رحيم بهم . ونكتة التعبير عن هذه التوبة ، وما يتلوها من المغفرة والرحمة ، بصيغة الفعل المستقبل " يتوب " إعلام المؤمنين بأن ما وقع في حنين من إيمان أكثر من بقي من الذين غلبوا وعذبوا بنصر المؤمنين عليهم ، سيقع مثله لكل الذين يقدمون على قتال المؤمنين بعد عودة حال الحرب بينهم ، فإن من سنة الله في الاجتماع البشري أن يميز الخبيث من الطيب بمثل ذلك . وما من حرب من حروب المسلمين الدينية الصحيحة إلا وكان عاقبتها كذلك . ولما صار الإسلام جنسية ، وحروب أهله أهواء دنيوية فقدوا ذلك .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية