الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2997 3168 - حدثنا محمد، حدثنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، سمع سعيد بن جبير، سمع ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى، قلت: يا أبا عباس، ما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه فقال: "ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا". فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما له؟ أهجر؟ استفهموه. فقال: "ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه" فأمرهم بثلاث قال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم". والثالثة خير، إما أن سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها. قال سفيان: هذا من قول سليمان. [انظر: 114 - مسلم: 1637 - فتح: 6 \ 270]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              وهذا سلف في المزارعة مسندا.

                                                                                                                                                                                                                              ثم أسند فيه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : بينما نحن في المسجد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "انطلقوا إلى يهود". فخرجنا حتى جئنا بيت المدراس، فقال:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 598 ] "أسلموا تسلموا، واعلموا أن الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن يجد منكم بماله شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله".
                                                                                                                                                                                                                              ويأتي في الاعتصام، والإكراه.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا محمد، ثنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، سمع سعيد بن جبير، سمع ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: يوم الخميس، وما يوم الخميس !... الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              ويأتي في المغازي وأخرجه مسلم، وقد سلف في باب: جوائز الوفد.

                                                                                                                                                                                                                              وقال في آخره: (والثالثة خير، إما أن سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها. قال سفيان: هذا من قول سليمان) أي: ابن أبي مسلم المكي الأعرج خال ابن أبي نجيح .

                                                                                                                                                                                                                              قال الجياني: ومحمد هذا لم ينسبه أحد من الرواة، وقد ذكر البخاري في الوضوء: حدثنا ابن سلام، ثنا ابن عيينة . وقال في عدة مواضع: عن محمد بن يوسف البيكندي، عن ابن عيينة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 599 ] وروى الإسماعيلي حديث الباب، عن الحسن بن سفيان، عن محمد بن خلاد الباهلي، عن ابن عيينة .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              أما الحديث فمعناه: أنه كان يكره أن يكون بأرض العرب غير المسلمين؛ لأنه امتحن في استقبال القبلة حتى نزل: قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية. [البقرة: 144]، وامتحن مع بني النضير حين أرادوا الغدر به وأن يلقوا عليه حجرا، فأمره الله بإجلائهم وإخراجهم وترك سائر اليهود، وكان لا يتقدم في شيء إلا بوحي الله، وكان يرجو أن يحقق الله رغبته في إبعاد اليهود عن جواره، فقال ليهود خيبر: "أقركم ما أقركم الله" منتظرا للقضاء فيهم، فلم يوح إليه في ذلك بشيء إلى أن حضرته الوفاة، فأوحي إليه فيه فقال: "لا يبقين دينان بأرض العرب" وأوصى بذلك عند موته فلما كان في خلافة عمر، وعدوا على ابنه وفدعوه، فحص عن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فأخبر أنه أوصى عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب فقال: من كان عنده عهد من رسول الله فليأت به وإلا فإني مجليكم، فأجلاهم.

                                                                                                                                                                                                                              قال المهلب : وإنما أمر بإخراجهم خوف التدليس منهم، وأنهم متى رأوا عدوا قويا صاروا معه كما فعلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب.

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري : وفيه من الفقه: أن الشارع سن لأمته المؤمنين إخراج كل من دان بغير دين الإسلام من كل بلدة للمسلمين سواء كانت تلك البلدة من البلاد التي أسلم أهلها عليها، أو من بلاد العنوة إذا لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم، ولم يكن الإسلام يومئذ ظهر في غير

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 600 ] جزيرة العرب ظهور قهر، فبان بذلك أن سبيل كل بلدة قهر فيها المسلمون أهل الكفر، ولم يكن تقدم قبل ذلك من إمام المسلمين لهم عقد صلح على إقرارهم فيها، أن على الإمام إخراجهم منها ومنعهم القرار بها، إلا أن يكون المسلمون إليهم ضرورة الإقرار مسافر ومقام ظعن، وأكثر ذلك ثلاثة أيام بلياليهم كالذي فعل الأئمة الأبرار عمر وغيره، فإن ظن ظان أن فعل عمر في ذلك إنما هو خاص بمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر جزيرة العرب؛ لأمره عليه بإخراجهم منها دون سائر بلاد الإسلام، وقال: لو كان حكم غير جزيرة العرب كحكمها في التسوية بينهما جميعا في إخراج أهل الكفر منها، لما كان عمر يقر النصارى النبط في سواد العراق، وقد قهرهم الإسلام وعلاهم، ولكان قد أجلى نصارى الشام ويهودها عنها وقد غلب الإسلام على بلادهم، ولما ترك مجوس فارس في أرضهم وقد غلبهم الإسلام وأهله.

                                                                                                                                                                                                                              فإن الأمر (في ذلك) بخلاف ما ظن، وذلك أن عمر لم يقر أحدا من أهل الشرك في أرض قد قهر فيها الإسلام وغلب.

                                                                                                                                                                                                                              لم يتقدم قبل ذلك قهر إياهم منه لهم أو من المؤمنين عقد صلح على الترك فيها إلا لضرورة المسلمين إلى إقرارهم فيها، كإقراره نبط سواد العراق في السواد بعد غلبة المسلمين عليه، وكإقرار من أقر من نصارى الشام فيها بعد غلبتهم على أرضها دون حصونها، فإنه أقرهم للضرورة إليهم في عمارة الأرض؛ إذ كان المسلمون في الحرب مشاغيل، ولو أجلوا عنها لخربت الأرض وبقيت بغير عامر، فكان فعلهم في ذلك نظير فعله - عليه السلام - وفعل الصديق في يهود خيبر ونصارى [ ص: 601 ] نجران، فإنه - عليه السلام - أقر يهود خيبر بعد قهر المسلمين لهم عمالا وعمارا؛ إذ كانت بالمسلمين ضرورة لعمارة أرضهم لانشغالهم بالحرب في مناوأة الأعداء، ثم أمر - عليه السلام - بإجلائهم عند استغنائهم عنهم، وقد كانوا سألوه عند قهرهم على الأرض إقرارهم فيها عمالا لأهلها، فأجابهم إلى إقرارهم فيها ما أقرهم الله، وإجلائهم منها إذا رأى ذلك، وأقرهم الصديق على نحو ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              فأما إقرارهم مع المسلمين في مصر لم يكن تقدم في ذلك قبل غلبة المسلمين عليه عقد صلح بينهم وبين المسلمين، فيما لا نعلمه صح به عنه ولا عن غيره من أئمة الهدى خبر، ولا قامت بجواز ذلك حجة، بل الحجة في ذلك عن الأئمة ما قلنا.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق بإسناده إلى قيس بن الربيع: حدثنا أبان بن تغلب، عن رجل قال: إن منادي علي - رضي الله عنه - ينادي كل يوم: لا يبيتن بالكوفة يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، الحقوا بالحيرة.

                                                                                                                                                                                                                              وإلى ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: لا يساكنكم أهل الكتاب في أمصاركم.

                                                                                                                                                                                                                              قال يحيى بن آدم: هذا عندنا على كل مصر اختطه المسلمون، ولم يكن لأهل كتاب، فنزل عليهم المسلمون.

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري : وهذا قول لا معنى له؛ لأن ابن عباس لم يخصص بقوله: لا يساكنكم أهل الكتاب مصرا سكانه (أهل) الإسلام دون غيرهم، بل عم ذلك بقوله: جميع أمصاركم، وأن دلالة أمره - عليه السلام - بإخراج اليهود من جزيرة العرب، يوضح بصحة ما قال ابن عباس،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 602 ] وأن الواجب على الإمام إخراجهم من كل مصر غلب عليه الإسلام إذا لم يكن بالمسلمين إليهم ضرورة، ولا كانت من بلاد الذمة التي صولحوا على الإقرار فيها؛ إلحاقا لحكمه بجزيرة العرب، وذلك أن خيبر لم تكن من البلاد التي اختطها المسلمون، وكذلك نجران بل كانت لأهل الكتاب، وهم كانوا عمارها وسكانها، فأمر - عليه السلام - بإخراجهم حين غلب عليها الإسلام، ولم يكن بهم إليهم ضرورة.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق من حديث جرير، عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا: "لا تصلح قبلتان في أرض" فإذا صح ما قلناه فالواجب على الإمام إذا أقر بعض أهل الكتاب في بعض بلاد المسلمين؛ لحاجتهم إليهم لعمارتها أو لغير ذلك ألا يدعهم في مصرهم أكثر من ثلاث، وأن يسكنهم خارجا من مصرهم كالذي فعل عمر وعلي، وأن يمنعهم من اتخاذ الدور والمساكن في أمصارهم، فإن اشترى منهم مشتر في مصر من أمصار المسلمين دارا أو ابتنى به مسكنا، فالواجب على إمام المسلمين أخذه ببيعها عليه، كما يجب عليه لو اشترى مملوكا مسلما، أن يأخذه ببيعه؛ لأنه ليس من المسلمين إقرار مسلم في ملك كافر، فكذلك غير جائز إقرار أرض المسلمين في غير ملكهم، قال غيره: وكذلك الحكم في الرجل المسلم الفاسق إذا شهد عليه أنه مؤذ لجيرانه بالسفه والتسليط، ويشتكي منه جيرانه، وصح ذلك عند الحاكم أن له أن يخرجه من بين أظهرهم، وإن كانت له دار أكراها عليه، فإن لم يجد لها مكتريا باعها عليه، ودفع الأذى عن جيرانه، وقال ابن القاسم : تكرى ولا تباع، وسيأتي هذا المعنى في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 603 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              في حديث ابن عباس كما قال المهلب : أن جوائز الوفود سنة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قد أسلفنا الكلام على حد جزيرة العرب واضحا، ونقل ابن بطال هنا عن أبي عبيد، عن الأصمعي: أن جزيرة العرب ما بين أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولا، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا. وعن إسماعيل بن إسحاق: عقبة تبوك هي الفرق بين جزيرة العرب وأهل الشام، وعن أبي عبيد، أن جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن طولا، وما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة عرضا. قال الطبري : وإنما قيل لها جزيرة العرب، وإنما هي: جزيرة البحر؛ تعريفا لها وفرقا بينهما وبين سائر الجزائر، كما قيل لأجا وسلمى - وهما جبلان من نجد - : جبلا طيء، تعريفا لهما بطيء؛ وفرقا بينهما وبين سائر جبال نجد، وإنما قيل لها: جزيرة؛ لانقطاع ما كان فائضا عليها من ماء البحر، وأصل الجزر في كلام العرب القطع، ومنه سمي الجزار: جزارا؛ لقطعه أعضاء البهيمة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية