الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      2999 حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا قرة قال سمعت يزيد بن عبد الله قال كنا بالمربد فجاء رجل أشعث الرأس بيده قطعة أديم أحمر فقلنا كأنك من أهل البادية فقال أجل قلنا ناولنا هذه القطعة الأديم التي في يدك فناولناها فقرأناها فإذا فيها من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله عليه وسلم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله فقلنا من كتب لك هذا الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 173 ]

                                                                      التالي السابق


                                                                      [ ص: 173 ] ( كنا بالمربد ) : بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة اسم موضع ( قطعة أديم ) : في القاموس : الأديم الجلد أو أحمره أو مدبوغه ( ناولنا ) : أمر من المناولة أي أعطنا ( فقرأنا ما فيها ) : أي قرأنا ما كتب في ( إنكم إن شهدتم إلخ ) : إن شرطية وجزاؤها قوله الآتي أنتم آمنون إلخ ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : أي قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                      قال الخطابي : أما سهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان سهم له كسهم رجل ممن يشهد الوقعة حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غاب عنها ، وأما الصفي فهو ما يصطفيه من عرض الغنيمة من شيء قبل أن يخمس عبد أو جارية أو فرس أو سيف أو غيرها ، كان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بذلك مع الخمس الذي له خاصة . انتهى .

                                                                      قال المنذري : ورواه بعضهم عن يزيد عن عبد الله وسمي الرجل النمر بن تولب الشاعر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقال إنه ما مدح أحدا ولا هجا أحدا وكان جوادا لا يكاد يمسك شيئا ، وأدرك الإسلام وهو كبير . والمربد محلة بالبصرة من أشهر محالها وأطيبها . انتهى .

                                                                      وفي النيل : ورجاله رجال الصحيح ، ويزيد بن عبد الله المذكور هو ابن شخير . انتهى .

                                                                      وهذه الروايات كلها تدل على استحقاق الإمام للصفي

                                                                      وقال بعض السلف : لا يستحق الإمام السهم الذي يقال له الصفي واستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم :ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا ، وأخذ وبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم . أخرجه أبو داود وغيره كما تقدم . قال ذلك البعض . وأما اصطفاؤه صلى الله عليه وسلم سيفه ذو الفقار من غنائم بدر فقد قيل إن الغنائم كانت له يومئذ خاصة فنسخ الحكم بالتخميس .

                                                                      وأما صفية بنت حيي فهي من خيبر ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم للغانمين منها إلا البعض ، [ ص: 174 ] فكان حكمهما حكم ذلك البعض الذي لم يقسم على أنه قد روي أنها وقعت في سهم دحية الكلبي فاشتراها منه النبي بسبعة أرؤس .

                                                                      قلت : حديث يزيد بن عبد الله فيه دليل واضح على إبطال ما ذهب إليه فإن فيه سهم النبي وسهم الصفي . وقالت عائشة وهي أعلم الناس " كانت صفية من الصفي " وأما قوله صلى الله عليه وسلم ولا يحل لي من غنائمكم فخص منه الصفي والله أعلم .

                                                                      فائدة : ثم اعلم رحمك الله تعالى وإياي أن قسمة الغنائم على ما فصلها الله تعالى وبينها بقوله واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله الآية واختلف العلماء هل الغنيمة والفيء اسمان لمسمى واحد أم يختلفان في التسمية ، فقال عطاء بن السائب : الغنيمة ما ظهر المسلمون عليه من أموال المشركين فأخذوه عنوة ، وأما الأرض فهي فيء وقال سفيان الثوري : الغنيمة ما أصاب المسلمون من مال الكفار عنوة بقتال وفيه الخمس وأربعة أخماسه لمن شهد الوقعة . والفيء ما صولحوا عليه بغير قتال وليس فيه خمس فهو لمن سمى الله وقيل الغنيمة ما أخذ من أموال الكفار عنوة عن قهر وغلبة . والفيء ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب كالعشور والجزية وأموال الصلح والمهادنة . وقيل إن الفيء والغنيمة معناهما واحد وهما اسمان لشيء واحد . والصحيح أنهما يختلفان فالفيء ما أخذ من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب ، والغنيمة ما أخذ من أموالهم على سبيل القهر والغلبة بإيجاف خيل عليه وركاب فذكر الله تعالى في هذه الآية حكم الغنيمة فقالواعلموا أنما غنمتم من شيء يعني من أي شيء كان حتى الخيط والمخيط فأن لله خمسه وللرسول وقد ذكر أكثر المفسرين أن قوله " لله " افتتاح كلام على سبيل التبرك ، وإنما أضافه لنفسه تعالى لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء ، وليس المراد منه أن سهما منه لله مفردا ، وهذا قول الحسن وقتادة وعطاء والنخعي قالوا سهم الله وسهم رسوله واحد . والغنيمة تقسم خمسة أخماس ، أربعة أخماسها لمن قاتل عليها والخمس الباقي لخمسة أصناف كما ذكر الله عز وجل للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . وقال أبو العالية : يقسم خمس الخمس على ستة أسهم سهم لله عز وجل . والقول الأول أصح ، أي أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله كان له في حياته واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام ، وهذا قول الشافعي وأحمد وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر [ ص: 175 ] وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح . وقال قتادة هو للخليفة . وقال أبو حنيفة : سهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته مردود في الخمس فيقسم الخمس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . وقوله تعالى : ولذي القربى يعني أن سهما من خمس الخمس لذوي القربى وهم أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم . واختلفوا فيهم فقال قوم هم جميع قريش ، وقال قوم هم الذين لا تحل لهم الصدقة . وقال مجاهد وعلي بن الحسين : هم بنو هاشم . وقال الشافعي : هم بنو هاشم وبنو المطلب وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء وإن كانوا إخوة ، ويدل عليه حديث جبير بن مطعم وعثمان بن عفان وقد تقدم .

                                                                      واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم أم لا ، فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت فيعطى فقراؤهم وأغنياؤهم من خمس الخمس للذكر مثل حظ الأنثيين ، وهو قول مالك والشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أنه غير ثابت قالوا سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردود في الخمس فيقسم في خمس الغنيمة على ثلاثة أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل فيصرف إلى فقراء ذوي القربى مع هذه الأصناف دون أغنيائهم . وحجة مالك وغيره أن الكتاب والسنة يدلان على ثبوت سهم ذوي القربى وكذا الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعطون ذوي القربى ولا يفضلون فقيرا على غني لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، وكذا الخلفاء بعده كانوا يعطونه . وقوله تعالى واليتامى جمع يتيم يعني ويعطى من خمس الخمس لليتامى ، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم الذي لا أب له فيعطى مع الحاجة إليه . وقوله والمساكين وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين . وقوله وابن السبيل وهو المسافر البعيد عن ماله فيعطى من خمس الخمس مع الحاجة إليه فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماسها الباقية بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة وحازوا الغنيمة فيعطى للفارس ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه ، ويعطى الراجل سهما واحدا ، وهذا قول أكثر أهل العلم ، ويرضح للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول . ومن قتل من المسلمين مشركا في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة . ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب يخصهم به من بين سائر الجيش ثم يجعلهم أسوة الجماعة في سائر الغنيمة . [ ص: 176 ] واختلف العلماء في أن النفل من أين يعطى فقال قوم من خمس الخمس من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قول ابن المسيب ، وبه قال الشافعي . وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم أخرجه النسائي وغيره وقال قوم هو من الأربعة الأخماس بعد إفراز الخمس كسهام الغزاة ، وهو قول أحمد وإسحاق . وذهب قوم إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل التخميس كالسلب للقاتل . وأما الفيء وهو ما أصابه المسلمون من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب بأن صالحهم على مال يؤدونه ، وكذلك الجزية وما أخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة أو بموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له ، فهذا كله فيء . ومال الفيء كان خالصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مدة حياته . وقال عمر إن الله تعالى قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يخص به أحدا غيره ثم قرأ عمر وما أفاء الله على رسوله منهم الآية ، فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة وكان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ثم ما بقي يجعله مجعل مال الله تعالى في الكراع والسلاح .

                                                                      واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم هو للأئمة بعده ، وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه للمقاتلة الذين أثبتت أسماؤهم في ديوان الجهاد لأنهم هم القائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم في إرهاب العدو والثاني أنه لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم ثم بالأهم فالأهم من المصالح .

                                                                      واختلف أهل العلم في تخميس الفيء ، فذهب الشافعي إلى أنه يخمس وخمسه لأهل الخمس من الغنيمة على خمسة أسهم وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح . وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل يصرف جميعه مصرفا واحدا ولجميع المسلمين فيه حق والله أعلم .




                                                                      الخدمات العلمية