الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 306 ]

                          فصل

                          فصل دقيق في " الكناية " وإثبات الصفة عن طريقها وأمثلة ذلك

                          362 - هذا فن من القول دقيق المسلك لطيف المأخذ، وهو أنا نراهم كما يصنعون في نفس الصفة بأن يذهبوا بها مذهب الكناية والتعريض ، كذلك يذهبون في إثبات الصفة هذا المذهب . وإذا فعلوا ذلك بدت هناك محاسن تملأ الطرف، ودقائق تعجز الوصف . ورأيت هنالك شعرا شاعرا وسحرا ساحرا، وبلاغة لا يكمل لها إلا الشاعر المفلق والخطيب المصقع . وكما أن الصفة إذا لم تأتك مصرحا بذكرها، مكشوفا عن وجهها، ولكن مدلولا عليها بغيرها، كان ذلك أفخم لشأنها، وألطف لمكانها ، كذلك إثباتك الصفة للشيء تثبتها له، إذا لم تلقه إلى السامع صريحا، وجئت إليه من جانب التعريض والكناية والرمز والإشارة، كان له من الفضل والمزية ومن الحسن والرونق ما لا يقل قليله، ولا يجهل موضع الفضيلة فيه .

                          363- وتفسير هذه الجملة وشرحها: أنهم يرومون وصف الرجل ومدحه، وإثبات معنى من المعاني الشريفة له، فيدعون التصريح بذلك، ويكنون عن جعلها فيه بجعلها في شيء يشتمل عليه ويتلبس به . ويتوصلون في الجملة إلى ما أرادوا من الإثبات لا من الجهة الظاهرة المعروفة، بل من طريق يخفى، ومسلك يدق ؟ ومثاله قول زياد الأعجم :


                          إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج



                          [ ص: 307 ]

                          أراد - كما لا يخفى - أن يثبت هذه المعاني والأوصاف خلالا للممدوح وضرائب فيه ، فترك أن يصرح فيقول : " إن السماحة والمروءة والندى لمجموعة في ابن الحشرج، أو مقصورة عليه، أو مختصة به " وما شاكل ذلك مما هو صريح في إثبات الأوصاف للمذكورين بها ، وعدل إلى ما ترى من الكناية والتلويح، فجعل كونها في القبة المضروبة عليه عبارة عن كونها فيه وإشارة إليه فخرج كلامه بذلك إلى ما خرج إليه من الجزالة وظهر فيه ما أنت ترى من الفخامة ولو أنه أسقط هذه الواسطة من البين لما كان إلا كلاما غفلا، وحديثا ساذجا .

                          364- فهذه الصنعة في طريق الإثبات، هي نظير الصنعة في المعاني، إذا جاءت كنايات عن معان أخر، نحو قوله :


                          وما يك في من عيب فإني     جبان الكلب مهزول الفصيل



                          فكما أنه إنما كان من فاخر الشعر، ومما يقع في الاختيار لأجل أنه أراد أن يذكر نفسه بالقرى والضيافة، فكنى عن ذلك بجبن الكلب وهزال الفصيل، وترك أن يصرح فيقول : " قد عرف أن جنابي مألوف، وكلبي [ ص: 308 ] مؤدب لا يهر في وجوه من يغشاني من الأضياف، وأني أنحر المتالي من إبلي، وأدع فصالها هزلى ، كذلك إنما راقك بيت زياد ، لأنه كنى عن إثباته السماحة والمروءة والندى كائنة في الممدوح، بجعلها كائنة في القبة المضروبة عليه .

                          365- هذا - وكما أن من شأن الكناية الواقعة في نفس الصفة أن تجيء على صور مختلفة كذلك من شأنها إذا وقعت في طريق إثبات الصفة أن تجيء على هذا الحد، ثم يكون في ذلك ما يتناسب كما كان ذلك في الكناية عن الصفة نفسها .

                          تفسير هذا أنك تنظر إلى قول يزيد بن الحكم يمدح به يزيد بن المهلب وهو في حبس الحجاج :


                          أصبح في قيدك السماحة     والمجد وفضل الصلاح والحسب



                          فتراه نظيرا لبيت " زياد " وتعلم أن مكان " القيد " هاهنا هو مكان " القبة " هناك .

                          كما أنك تنظر إلى قوله : " جبان الكلب " فتعلم أنه نظير لقوله :


                          زجرت كلابي أن يهر عقورها



                          [ ص: 309 ]

                          من حيث لم يكن ذلك " الجبن " إلا لأن دام منه الزجر واستمر، حتى أخرج الكلب بذلك عما هو عادته من الهرير والنبح في وجه من يدنو من دار هو مرصد لأن يعس دونها .

                          وتنظر إلى قوله : " مهزول الفصيل " فتعلم أنه نظير قول ابن هرمة :


                          لا أمتع العوذ بالفصال



                          وتنظر إلى قول نصيب :


                          لعبد العزيز على قومه     وغيرهم منن ظاهره


                          فبابك أسهل أبوابهم     ودارك مأهولة عامره


                          وكلبك آنس بالزائرين     من الأم بالابنة الزائره



                          فتعلم أنه من قول الآخر :


                          يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا     يكلمه من حبه وهو أعجم



                          وأن بينهما قرابة شديدة ونسبا لاصقا، وأن صورتهما في فرط التناسب صورة بيتي " زياد " و " يزيد " .

                          366 - ومما هو إثبات للصفة على طريق الكناية والتعريض قولهم : " المجد بين ثوبيه، والكرم في برديه " وذلك أن قائل هذا يتوصل إلى إثبات المجد [ ص: 310 ] والكرم للممدوح، بأن يجعلهما في ثوبه الذي يلبسه، كما توصل " زياد " إلى إثبات السماحة والمروءة والندى لابن الحشرج، بأن جعلها في القبة التي هو جالس فيها . ومن ذلك قوله :


                          وحيثما يك أمر صالح فكن



                          وما جاء في معناه من قوله :


                          يصير أبان قرين السماح     والمكرمات معا حيث صارا



                          وقول أبي نواس :


                          فما جازه جود ولا حل دونه     ولكن يصير الجود حيث يصير



                          كل ذلك توصل إلى إثبات الصفة في الممدوح بإثباتها في المكان الذي يكون فيه، وإلى لزومها له بلزومها الموضع الذي يحله . وهكذا إن اعتبرت قول الشنفرى يصف امرأة بالعفة :


                          يبيت بمنجاة من اللوم بيتها     إذا ما بيوت بالملامة حلت



                          وجدته يدخل في معنى بيت " زياد " وذلك أنه توصل إلى نفي اللوم [ ص: 311 ] عنها وإبعادها عنه : بأن نفاه عن بيتها وباعد بينه وبينه . وكان مذهبه في ذلك مذهب " زياد " في التوصل إلى جعل السماحة والمروءة والندى في ابن الحشرج، بأن جعلها في القبة المضروبة عليه . وإنما الفرق أن هذا ينفي وذاك يثبت . وذلك فرق لا في موضع الجمع فهو لا يمنع أن يكونا من نصاب واحد .

                          367- ومما هو في حكم المناسب لبيت " زياد " وأمثاله التي ذكرت وإن كان قد أخرج في صورة أغرب وأبدع قول حسان رضي الله عنه :


                          بنى المجد بيتا فاستقرت عماده     علينا فأعيا الناس أن يتحولا



                          وقول البحتري :


                          أوما رأيت المجد ألقى رحله     في آل طلحة ثم لم يتحول



                          ذاك لأن مدار الأمر على أنه جعل المجد الممدوح في مكان وجعله يكون حيث يكون .

                          368- واعلم أنه ليس كل ما جاء كناية في إثبات الصفة يصلح أن يحكم عليه بالتناسب .

                          معنى هذا أن جعلهم الجود والكرم والمجد يمرض بمرض الممدوح كما قال البحتري :


                          ظللنا نعود الجود من وعكك الذي     وجدت وقلنا اعتل عضو من المجد



                          [ ص: 312 ]

                          وإن كان يكون القصد منه إثبات الجود والمجد للممدوح، فإنه لا يصح أن يقال إنه نظير لبيت " زياد " كما قلنا ذاك في بيت أبي نواس :


                          ولكن يصير الجود حيث يصير



                          وغيره مما ذكرنا أنه نظير له، كما أنه لا يجوز أن يجعل قوله :


                          وكلبك أرأف بالزائرين



                          مثلا نظيرا لقوله :

                          مهزول الفصيل

                          وإن كان الغرض منهما جميعا الوصف بالقرى والضيافة، وكانا جميعا كنايتين عن معنى واحد لأن تعاقب الكنايات على المعنى الواحد لا يوجب تناسبها، لأنه في عروض أن تتفق الأشعار الكثيرة في كونها مدحا بالشجاعة مثلا أو بالجود أو ما أشبه ذلك .

                          كيف تختلف " الكنايتان " فلا تكون إحداهما نظيرا للأخرى

                          369- وقد يجتمع في البيت الواحد كنايتان، المغزى منهما شيء واحد ، ثم لا تكون إحداهما في حكم النظير للأخرى . مثال ذلك أنه لا يكون قوله : " جبان الكلب " نظيرا لقوله : " مهزول الفصيل " بل كل واحدة من هاتين الكنايتين أصل بنفسه وجنس على حدة ، وكذلك قول ابن هرمة :


                          لا أمتع العوذ بالفصال ولا     أبتاع إلا قريبة الأجل



                          ليس إحدى كنايتيه في حكم النظير للأخرى، وإن كان المكني بهما عنه واحدا فاعرفه .

                          [ ص: 313 ]

                          370- وليس لشعب هذا الأصل وفروعه وأمثلته وصوره وطرقه ومسالكه حد ونهاية . ومن لطيف ذلك ونادره قول أبي تمام :


                          أبين فما يزرن سوى كريم     وحسبك أن يزرن أبا سعيد



                          ومثله، وإن لم يبلغ مبلغه قول الآخر :


                          متى تخلو تميم من كريم     ومسلمة بن عمرو من تميم



                          وكذلك قول بعض العرب :


                          إذا الله لم يسق إلا الكرام     فسقى وجوه بني حنبل


                          وسقى ديارهم باكرا     من الغيث في الزمن الممحل



                          [ ص: 314 ]

                          وفن منه غريب قول بعضهم في البرامكة :


                          سألت الندى والجود : ما لي أراكما     تبدلتما ذلا بعز مؤيد


                          وما بال ركن المجد أمسى مهدما؟     فقالا : أصبنا بابن يحيى محمد


                          فقلت : فهلا متما عند موته     فقد كنتما عبديه في كل مشهد؟


                          فقالا : أقمنا كي نعزى بفقده     مسافة يوم ثم نتلوه في غد



                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية