الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              المسألة الخامسة

              إذا ثبت أنه لا يلزم القصد إلى المسبب ، فللمكلف ترك القصد إليه بإطلاق ، وله القصد إليه .

              أما الأول : فما تقدم يدل عليه .

              فإذا قيل لك : لم تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو بغيرها ؟

              قلت : لأن الشارع ندبني إلى تلك الأعمال ; فأنا أعمل على مقتضى ما أمرت به ، كما أنه أمرني أن أصلي ، وأصوم ، وأزكي ، وأحج إلى غير ذلك من الأعمال التي كلفني بها .

              فإن قيل لك : إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح .

              قلت : نعم ، وذلك إلى الله لا إلي ; فإن الذي إلي التسبب ، وحصول [ ص: 314 ] المسببات ليس إلي ، فأصرف قصدي إلى ما جعل إلي ، وأكل ما ليس لي إلى من هو له .

              ومما يدل على هذا أيضا أن السبب غير فاعل بنفسه ، بل إنما وقع المسبب عنده لا به ، فإذا تسبب المكلف فالله خالق السبب ، والعبد مكتسب له والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] .

              الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل [ الزمر : 62 ] .

              وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ التكوير : 29 ] .

              ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ الشمس : 7 - 8 ] .

              وفي حديث العدوى قوله عليه الصلاة والسلام : فمن أعدى الأول ؟ ، وقول عمر في حديث الطاعون : " نفر من قدر الله إلى قدر الله " حين قال له عمرو بن العاص : " أفرارا من قدر الله " ، وفي الحديث : جف القلم بما هو [ ص: 315 ] كائن ، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك ، لم يقدروا عليه وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه .

              والأدلة على هذا تنتهي إلى القطع ، وإذا كان كذلك ; فالالتفات إلى المسبب في فعل السبب لا يزيد على ترك الالتفات إليه ; فإن المسبب قد يكون وقد لا يكون ، هذا وإن كانت مجاري العادات تقتضي أنه يكون ، فكونه داخلا تحت قدرة الله يقتضي أنه قد يكون ، وقد لا يكون ، ونقض مجاري العادات دليل على ذلك ، وأيضا ; فليس في الشرع دليل ناص على طلب القصد [ ص: 316 ] المسبب .

              فإن قيل : قصد الشارع إلى المسببات ، والتفاته إليها ، دليل على أنها مطلوبة القصد من المكلف ، وإلا فليس المراد بالتكليف إلا مطابقة قصد المكلف لقصد الشارع ; إذ لو خالفه لم يصح التكليف كما تبين في موضعه من هذا الكتاب ، فإذا طابقه صح ، فإذا فرضنا هذا المكلف غير قاصد للمسببات ، وقد فرضناها مقصودة للشارع ; كان بذلك مخالفا له ، وكل تكليف قد خالف القصد فيه قصد الشارع فباطل ، كما تبين فهذا كذلك .

              فالجواب : أن هذا إنما يلزم إذا فرضنا أن الشارع قصد وقوع المسببات بالتكليف بها كما قصد ذلك بالأسباب ، وليس كذلك ; لما مر أن المسببات غير مكلف بها ، وإنما قصده وقوع المسببات بحسب ارتباط العادة الجارية في الخلق ، وهو أن يكون خلق المسببات على أثر إيقاع المكلف للأسباب ليسعد من سعد ، ويشقى من شقي ، فإذا قصد الشارع لوقوع المسببات لا ارتباط له [ ص: 317 ] بالقصد التكليفي ; فلا يلزم قصد المكلف إليه إلا أن يدل على ذلك دليل ، ولا دليل عليه ، بل لا يصح ذلك لأن القصد إلى ذلك قصد إلى ما هو فعل الغير ، ولا يلزم أحدا أن يقصد وقوع ما هو فعل الغير لأنه غير مكلف بفعل الغير ، وإنما يكلف بما هو من فعله ، وهو السبب خاصة ; فهو الذي يلزم القصد إليه أو يطلب القصد إليه ، ويعتبر فيه موافقة قصد الشارع .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية