الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 466 ] النوع الثمانون في طبقات المفسرين .

اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة : الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير .

أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب ، والرواية عن الثلاثة نزرة جدا ، وكان السبب في ذلك تقدم وفاتهم ، كما أن ذلك هو السبب في قلة رواية أبي بكر رضي الله عنه للحديث ، ولا أحفظ عن أبي بكر رضي الله عنه في التفسير إلا آثارا قليلة جدا ، لا تكاد تجاوز العشرة .

وأما علي : فروي عنه الكثير ، وقد روى معمر ، عن وهب بن عبد الله ، عن أبي الطفيل قال : شهدت عليا يخطب وهو يقول : سلوني فوالله لا تسألون عن شيء إلا أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل أم في جبل .

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود قال : إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن ، وإن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن . وأخرج أيضا من طريق أبي بكر بن عياش ، عن نصير بن سليمان الأحمسي ، عن أبيه عن علي قال : والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت ، وأين أنزلت ، إن ربي وهب لي قلبا عقولا ، ولسانا سئولا .

وأما ابن مسعود فروي عنه أكثر مما روى عن علي ، وقد أخرج ابن جرير وغيره [ ص: 467 ] عنه أنه قال : والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وأين نزلت ، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته .

وأخرج أبو نعيم عن أبي البحتري قال : قالوا لعلي : أخبرنا عن ابن مسعود قال : علم القرآن والسنة ثم انتهى ، وكفى بذلك علما .

وأما ابن عباس فهو ترجمان القرآن الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقال له أيضا : اللهم آته الحكمة وفي رواية : اللهم علمه الحكمة .

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال : اللهم بارك فيه وانشر منه .

وأخرج من طريق عبد المؤمن بن خالد بن عبد الله بن بريدة ، عن ابن عباس قال : انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل ، فقال له جبريل : إنه كائن حبر هذه الأمة فاستوص به خيرا .

وأخرج من طريق عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب ، عن مجاهد قال : قال ابن عباس : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ترجمان القرآن أنت . وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس .

وأخرج أبو نعيم عن مجاهد قال : كان ابن عباس يسمى البحر لكثرة علمه .

وأخرج عن ابن الحنفية قال : كان ابن عباس حبر هذه الأمة .

[ ص: 468 ] وأخرج عن الحسن قال : إن ابن عباس كان من القرآن بمنزل ، كان عمر يقول : ذاكم فتى الكهول ، إن له لسانا سئولا ، وقلبا عقولا .

وأخرج من طريق عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أن رجلا أتاه يسأله عن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما [ الأنبياء : 30 ] . فقال : اذهب إلى ابن عباس ، فسأله ثم تعال فأخبرني فذهب فسأله فقال : كانت السماوات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، ففتق هذه بالمطر ، وهذه بالنبات ، فرجع إلى ابن عمر فأخبره ، فقال : قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن قد علمت أنه أوتي علما .

وأخرج البخاري من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال : لم يدخل هذا معنا ، وإن لنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه ممن علمتم ، ودعاهم ذات يوم ، فأدخله معهم فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول الله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا ، فقال : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا . فقال : ما تقول ؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به قال : إذا جاء نصر الله والفتح فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول .

وأخرج أيضا من طريق ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس قال : قال عمر بن [ ص: 469 ] الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيمن ترون هذه الآية نزلت : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [ البقرة : 266 ] . قالوا : الله أعلم . فغضب عمر ، فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم ، فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء فقال : يابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك . قال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل . فقال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله .

وأخرج أبو نعيم عن محمد بن كعب القرظي ، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب جلس في رهط من المهاجرين من الصحابة ، فذكروا ليلة القدر ، فتكلم كل بما عنده ، فقال عمر : ما لك يا ابن عباس صامت لا تتكلم ؟ تكلم ولا تمنعك الحداثة .

قال ابن عباس : ، فقلت يا أمير المؤمنين ، إن الله وتر يحب الوتر ، فجعل أيام الدنيا تدور على سبع ، وخلق أرزاقنا من سبع ، وخلق الإنسان من سبع ، وخلق فوقنا سماوات سبع ، وخلق تحتنا أرضين سبعا ، وأعطى من المثاني سبعا ، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع ، وقسم الميراث في كتابه على سبع ، ونقع في السجود من أجسادنا على سبع ، وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكعبة سبعا ، وبين الصفا والمروة سبعا ، ورمى الجمار بسبع ، فأراها في السبع الأواخر من شهر رمضان ، فتعجب عمر فقال : ما وافقني فيها أحد إلا هذا الغلام الذي لم تستو شؤون رأسه ثم قال : يا هؤلاء من يؤديني في هذا كأداء ابن عباس .

وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة ، وفيه روايات وطرق مختلفة ، فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه .

قال أحمد بن حنبل : بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة ، لو رحل [ ص: 470 ] رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا . أسنده أبو جعفر النحاس في ناسخه .

قال ابن حجر : وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس وهي عند البخاري ، عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرا فيما يعلقه عن ابن عباس .

وأخرج منها ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، كثيرا بوسائط بينهم وبين أبي صالح .

وقال قوم : لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس التفسير ، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير .

قال ابن حجر : بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير في ذلك .

وقال الخليلي في الإرشاد : تفسير معاوية بن صالح قاضي الأندلس ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : رواه الكبار عن أبي صالح كاتب الليث ، عن معاوية ، وأجمع الحفاظ على أن ابن أبي طلحة لم يسمعه من ابن عباس .

قال : وهذه التفاسير الطوال التي أسندوها إلى ابن عباس غير مرضية ، ورواتها مجاهيل كتفسير جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس .

وعن ابن جريج في التفسير جماعة رووا عنه ، وأطولها ما يرويه بكر بن سهل الدمياطي ، عن عبد الغني بن سعيد ، عن موسى بن محمد ، عن ابن جريج ، وفيه نظر . وروى محمد بن ثور ، عن ابن جريج ، نحو ثلاثة أجزاء كبار وذلك صححوه .

وروى الحجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، نحو جزء وذلك صحيح متفق عليه .

وتفسير شبل بن عباد المكي ، عن أبي جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قريب إلى الصحة . وتفسير عطاء بن دينار يكتب ويحتج به .

وتفسير أبي روق نحو جزء صححوه .

وتفسير إسماعيل السدي يورده بأسانيد إلى ابن مسعود ، وابن عباس .

وروى عن [ ص: 471 ] السدي الأئمة مثل الثوري وشعبة لكن التفسير الذي جمعه رواه أسباط بن نصر ، وأسباط لم يتفقوا عليه ، غير أن أمثل التفاسير تفسير السدي . فأما ابن جرير فإنه لم يقصد الصحة ، وإنما روى ما ذكر في كل آية من الصحيح والسقيم .

وتفسير مقاتل بن سليمان : فمقاتل في نفسه ضعفوه ، وقد أدرك الكبار من التابعين ، والشافعي أشار إلى أن تفسيره صالح . انتهى كلام الإرشاد .

وتفسير السدي الذي أشار إليه يورد منه ابن جرير كثيرا من طريق السدي ، عن أبي مالك ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس . وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة هكذا ، ولم يورد منه ابن أبي حاتم شيئا لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد . والحاكم يخرج منه في مستدركه أشياء ويصححه ، لكن من طريق مرة ، عن ابن مسعود ، وناس فقط دون الطريق الأول . وقد قال ابن كثير : إن هذا الإسناد يروي به السدي أشياء فيها غرابة .

ومن جيد الطرق عن ابن عباس طريق قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عنه . وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين ، وكثيرا ما يخرج منها الفريابي والحاكم في مستدركه .

ومن ذلك طريق ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، مولى آل زيد بن ثابت ، عن عكرمة - أو سعيد بن جبير - عنه ، هكذا بالترديد وهي طريق جيدة وإسنادها حسن . وقد أخرج منها ابن جرير ، وابن أبي حاتم كثيرا . وفي معجم الطبراني الكبير منها أشياء .

وأوهى طرقه طريق الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب ، وكثيرا ما يخرج منها الثعلبي ، والواحدي .

لكن قال ابن عدي في الكامل : للكلبي أحاديث صالحة ، وخاصة عن أبي صالح ، [ ص: 472 ] وهو معروف بالتفسير ، وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشبع ، وبعده مقاتل بن سليمان ، إلا أن الكلبي يفضل عليه ، لما في مقاتل من المذاهب الرديئة .

وطريق الضحاك بن مزاحم ، عن ابن عباس منقطعة ، فإن الضحاك لم يلقه ، فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة ، عن أبي روق عنه فضعيفة لضعف بشر .

وقد أخرج من هذه النسخة كثيرا ابن جرير وابن أبي حاتم ، وإن كان من رواية جويبر ، عن الضحاك فأشد ضعفا ، لأن جويبرا شديد الضعف متروك ، ولم يخرج ابن جرير ، ولا ابن أبي حاتم من هذا الطريق شيئا ، إنما خرجها ابن مردويه والشيخ ابن حبان .

وطريق العوفي عن ابن عباس ، أخرج منها ابن جرير ، وابن أبي حاتم كثيرا ، والعوفي ضعيف ليس بواه ، وربما حسن له الترمذي .

ورأيت عن فضائل الإمام الشافعي لأبي عبد الله بن محمد بن أحمد بن شاكر القطان : أنه أخرج بسنده من طريق ابن عبد الحكم ، قال : سمعت الشافعي يقول : لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث .

وأما أبي بن كعب فعنه نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية عنه . وهذا إسناد صحيح وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم منها كثيرا ، وكذا الحاكم في مستدركه وأحمد في مسنده .

وقد ورد عن جماعة من الصحابة غير هؤلاء اليسير من التفسير ، كأنس ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وجابر ، وأبي موسى الأشعري . وورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أشياء تتعلق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة ، وما أشبهها ، بأن يكون ما تحمله عن أهل الكتاب كالذي ورد عنه في قوله تعالى : في ظلل من الغمام [ البقرة : 210 ] . وكتابنا الذي أشرنا إليه جامع لجميع ما ورد عن الصحابة من ذلك .

طبقة التابعين : قال ابن تيمية : أعلم الناس بالتفسير أهل مكة; لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وطاوس وغيرهم .

وكذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود ، [ ص: 473 ] وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم ، الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد ، ومالك بن أنس انتهى .

فمن المبرزين منهم مجاهد . قال الفضل بن ميمون : سمعت مجاهدا يقول : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة .

وعنه أيضا قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية منه ، وأسأله عنها فيم نزلت ؟ وكيف كانت ؟ .

وقال خصيف : كان أعلمهم بالتفسير مجاهد .

وقال النووي : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .

قال ابن تيمية : ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم .

قلت : وغالب ما أورده الفريابي في تفسيره عنه ، وما أورده فيه عن ابن عباس أو غيره قليل جدا .

ومنهم سعيد بن جبير . قال سفيان الثوري : خذوا التفسير عن أربعة : عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك .

وقال قتادة : كان أعلم التابعين أربعة ، كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك ، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير ، وكان عكرمة أعلمهم بالسير ، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام .

[ ص: 474 ] ومنهم عكرمة مولى ابن عباس . قال الشعبي : ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة .

وقال سماك بن حرب : سمعت عكرمة يقول : لقد فسرت ما بين اللوحين .

وقال عكرمة : كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل ، ويعلمني القرآن والسنن .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سماك قال : قال عكرمة : كل شيء أحدثكم في القرآن فهو عن ابن عباس .

ومنهم الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، وعطاء بن أبي سلمة الخراساني ، ومحمد بن كعب القرظي ، وأبو العالية ، والضحاك بن مزاحم ، وعطية العوفي ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، ومرة الهمداني ، وأبو مالك ، ويليهم الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في آخرين . فهؤلاء قدماء المفسرين ، وغالب أقوالهم تلقوها عن الصحابة .

ثم بعد هذه الطبقة ألفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين ، كتفسير سفيان بن عيينة ، ووكيع بن الجراح ، وشعبة بن الحجاج ، ويزيد بن هارون ، وعبد الرزاق ، وآدم بن أبي إياس ، وإسحاق بن راهويه ، وروح بن عبادة ، وعبد بن حميد ، وسنيد ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وآخرين .

وبعدهم ابن جرير الطبري ، وكتابه أجل التفاسير وأعظمها ، ثم ابن أبي حاتم ، وابن ماجه ، والحاكم ، وابن مردويه ، وأبو الشيخ ابن حيان ، وابن المنذر في آخرين ، وكلها مسندة إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم ، وليس فيها غير ذلك إلا ابن جرير ، فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض ، والإعراب والاستنباط فهو يفوقها بذلك .

ثم ألف في التفسير خلائق فاختصروا الأسانيد ، ونقلوا الأقوال بترا فدخل من هنا الدخيل ، والتبس الصحيح بالعليل ، ثم صار كل من يسنح له قول يورده ، ومن يخطر بباله [ ص: 475 ] شيء يعتمده ، ثم ينقل ذلك عنه من يجيء بعده ، ظانا أن له أصلا غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ، ومن يرجع إليهم في التفسير ، حتى رأيت من حكى في تفسير قوله تعالى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين نحو عشرة أقوال وتفسيرها باليهود والنصارى هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة والتابعين ، وأتباعهم ، حتى قال ابن أبي حاتم : لا أعلم في ذلك اختلافا بين المفسرين .

ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في علوم ، فكان كل منهم يقتصر في تفسيره على الفن الذي يغلب عليه .

فالنحوي تراه ليس له هم إلا الإعراب ، وتكثير الأوجه المحتملة فيه ، ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته ، كالزجاج ، والواحدي في البسيط ، وأبي حيان في البحر والنهر .

والإخباري ليس له شغل إلا القصص واستيفاءها ، والإخبار عمن سلف ، سواء كانت صحيحة أو باطلة كالثعلبي .

والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه من باب الطهارة إلى أمهات الأولاد ، وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلق لها بالآية ، والجواب عن أدلة المخالفين كالقرطبي .

وصاحب العلوم العقلية خصوصا الإمام فخر الدين قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبهها ، وخرج من شيء إلى شيء حتى يقضي الناظر العجب من عدم مطابقة المورد للآية .

قال أبو حيان في البحر : جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير ، ولذلك قال بعض العلماء : فيه كل شيء إلا التفسير .

والمبتدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد ، بحيث إنه متى لاح له شاردة من بعيد اقتنصها ، أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال سارع إليه .

قال البلقيني : استخرجت من الكشاف اعتزالا بالمناقيش من قوله تعالى في تفسير : فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [ آل عمران : 185 ] . وأي فوز أعظم من دخول الجنة ! أشار به إلى عدم الرؤية .

[ ص: 476 ] والملحد فلا تسأل عن كفره وإلحاده في آيات الله ، وافترائه على الله ما لم يقله ، كقول بعضهم في : إن هي إلا فتنتك [ الأعراف : 155 ] . ما على العباد أضر من ربهم . وكقوله في سحرة موسى ما قال ، وقول الرافضة في : يأمركم أن تذبحوا بقرة [ البقرة : 67 ] . ما قالوا . وعلى هذا وأمثاله يحمل ما أخرجه أبو يعلى وغيره عن حذيفة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن في أمتي قوما يقرءون القرآن ينثرونه نثر الدقل ، يتأولونه على غير تأويله .

فإن قلت : فأي التفاسير ترشد إليه وتأمر الناظر أن يعول عليه ؟

قلت : تفسير الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري الذي أجمع العلماء المعتبرون على أنه لم يؤلف في التفسير مثله .

قال النووي في تهذيبه : كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله .

وقد شرعت في تفسير جامع لجميع ما يحتاج إليه من التفاسير المنقولة ، والأقوال المقولة ، والاستنباطات والإشارات ، والأعاريب واللغات ، ونكت البلاغة ، ومحاسن البدائع ، وغير ذلك بحيث لا يحتاج معه إلى غيره أصلا ، وسميته ب " مجمع البحرين ومطلع البدرين " وهو الذي جعلت هذا الكتاب مقدمة له ، والله أسأل أن يعين على إكماله بمحمد وآله .

التالي السابق


الخدمات العلمية