الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ثم عند أبي حنيفة إذا بلغ الغلام غير رشيد لم يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة ، فإن تصرف فيه قبل ذلك نفذ [ ص: 262 ] تصرفه ، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة يسلم إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد . وقالا : لا يدفع إليه ماله أبدا حتى يؤنس منه رشده ، ولا يجوز تصرفه فيه ) لأن علة المنع السفه فيبقى ما بقي العلة وصار كالصبا . ولأبي حنيفة رحمه الله أن منع المال عنه بطريق التأديب ، ولا يتأدب بعد هذا ظاهرا وغالبا ; ألا يرى أنه قد يصير جدا في هذا السن فلا فائدة في المنع فلزم الدفع ، ولأن المنع [ ص: 263 ] باعتبار أثر الصبا وهو في أوائل البلوغ ويتقطع بتطاول الزمان فلا يبقى المنع ، ولهذا قال أبو حنيفة : لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لا يمنع المال عنه لأنه ليس بأثر الصبا ، ثم لا يتأتى التفريع على قوله وإنما التفريع على قول من يرى الحجر . فعندهما لما صح الحجر لا ينفذ بيعه إذا باع توفيرا لفائدة الحجر عليه ، وإن كان فيه مصلحة أجازه الحاكم لأن ركن التصرف قد وجد والتوقف للنظر له وقد نصب الحاكم ناظرا له فيتحرى المصلحة فيه ، كما في الصبي الذي يعقل البيع والشراء ويقصده .

التالي السابق


( قوله وقالا : لا يدفع إليه ماله أبدا حتى يؤنس منه رشده ) قال صاحب العناية : وتسامح عبارته في الجمع بين الأبد وحتى ظاهر ا هـ .

أقول : يمكن توجيه عبارته بأن يحمل الأبد على الزمان الطويل الممتد ، كما حمل بعض المفسرين الخلود في قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } على المكث الطويل ، فحينئذ لا تدافع بين الأبد وحتى كما لا يخفى ( قوله ولأبي حنيفة أن منع المال عنه بطريق التأديب ولا يتأدب بعد هذا ظاهرا وغالبا ، ألا يرى أنه يصير جدا في هذا السن فلا فائدة في المنع فلزم الدفع ) قال صاحب العناية وهذا الدليل يمكن أن يوجه على وجهين : أحدهما أن يقال : سلمنا أن علة المنع السفه ، لكن المعلول هو المنع من حيث التأديب وهذا يقتضي أن يكون محلا للتأديب ولا تأديب بعد هذه المدة ظاهرا وغالبا ، لأن في هذه المدة يصير جدا باعتبار أقل مدة البلوغ في الإنزال وهو اثنتا عشرة سنة ، وأقل مدة الحمل وهو ستة أشهر ، وإذا لم يبق قابلا للتأديب فلا فائدة في المنع فلزم الدفع .

والثاني : أن يجعل معارضة فيقال : ما ذكرتم وإن دل على ثبوت المدلول لكن عندنا ما ينفيه ، وهو أن منع المال عنه بطريق التأديب إلخ ا هـ كلامه ، وقد اقتفى أثره الشارح العيني .

أقول : في تقرير الوجه الأول على ما ذكراه خلل ، إذ على تقدير تسليم كون علة المنع السفه وادعاه أن المعلول هو المنع من حيث التأديب دون المنع المطلق يلزم أن يتخلف المعلول عن العلة بعد تلك المدة لعدم تحقق المنع من حيث التأديب بعدها بناء على عدم كون المحل قابلا للتأديب مع تحقق السفه بعدها أيضا ، ولا شك أن تخلف المعلول عن العلة باطل ، ولهذا قال في دليل الإمامين : فيبقى ما بقي العلة ، فاعتبار التأديب مع المنع في جانب المعلول باطل أيضا لاستلزامه ذلك الباطل المحال .

والصواب عندي في تقرير الوجه الأول أن يقال : إن علة المنع ليس هو السفه وحده بل هو مع قصد التأديب ، فإذا لم يبق المحل قابلا للتأديب بعد تلك المدة لم يقصد التأديب بعدها فانتفت العلة بانتفاء أحد جزأيها وهو قصد التأديب فلزم انتفاء المعلول الذي هو المنع أيضا بعدها فوجب الدفع ، فصار حاصل هذا الدليل على هذا الوجه هو المنع لا التسليم كما توهم ( قوله ولأن المنع [ ص: 263 ] باعتبار أثر الصبا وهو في أوائل البلوغ ، وينقطع بتطاول الزمان فلا يبقى المنع ) فإن قيل : الدفع معلق بإيناس الرشد فما لم يوجد لا يجوز الدفع إليه .

وأجيب بأن الشرط يوجب الوجود عند الوجود لا العدم عند العدم . سلمناه ، لكنه منكر يراد به أدنى ما ينطلق عليه ، وقد وجد ذلك إذا وصل الإنسان إلى هذه الحالة لصيرورة فروعه أصلا فكان متناهيا في الأصالة .

أقول : الظاهر أن كونه متناهيا في الأصالة عند وصوله إلى تلك المدة لا يقتضي رشده لحصول ذلك في المجنون أيضا مع عدم تصور الرشد فيه . سلمناه لكنه لا يطابق قول أبي حنيفة في وضع المسألة مع أنه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة يسلم إليه ماله وإن لم يؤنس منه الرشد . اللهم إلا أن يراد بالرشد هناك الرشد الكامل ، لكن لا يساعده اللفظ ويأباه دليله ، تأمل تقف ( قوله لأن ركن التصرف قد وجد والتوقف للنظر له وقد نصب الحاكم ناظرا له فيتحرى المصلحة فيه ) قال في العناية : استدل على الجواز والتوقف بقوله لأن ركن التصرف قد وجد وذلك يوجب الجواز .

ورد بأن ركن التصرف إذا وجد من أهله يوجب ذلك والسفيه ليس بأهل . وأجيب بأنه أهل لأن الأهلية بالعقل والسفه لا ينفيه .

فإن قيل : فعلام التوقف ؟ أجاب بقوله للنظر له ، فإن الحاكم نصب ناظرا فيتحرى المصلحة فيه كما في الصبي الذي يعقل البيع والشراء ويقصده ، إلى هنا لفظ العناية ، ورد بعض الفضلاء قوله واستدل على الجواز والتوقف بقوله لأن ركن التصرف وجد حيث قال : هذا إنما يدل على الجواز فقط ا هـ .

أقول : يمكن أن يحمل كلام صاحب العناية هاهنا على أن المصنف استدل على الجواز والتوقف بقوله لأن ركن التصرف قد وجد إلخ : أي استدل على الجواز بقوله لأن ركن التصرف قد وجد ، واستدل على التوقف بقوله والتوقف للنظر إلخ ، فحصل [ ص: 264 ] من المجموع الاستدلال على الجواز والتوقف معا وإن كان الحاصل من أول قوله هو الاستدلال على الجواز فقط . ولما اتجه على أول استدلاله سؤال ظاهر الورود تصدى الشارح لذكره مع جوابه فوقع الفصل بين دليل الجواز ودليل التوقف في البيان تدبر تفهم




الخدمات العلمية