الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 266 ] غير مضار وصية من الله والله عليم حليم

غير مضار حال من ضمير يوصى الأخير ، ولما كان فعل يوصى تكريرا ، كان حالا من ضمائر نظائره .

مضار الأظهر أنه اسم فاعل بتقدير كسر الراء الأولى المدغمة أي غير مضار ورثته بإكثار الوصايا ، وهو نهي عن أن يقصد من وصيته الإضرار بالورثة . والإضرار منه ما حدده الشرع ، وهو أن يتجاوز الموصي بوصيته ثلث ماله وقد حدده النبيء - صلى الله عليه وسلم - بقوله لسعد بن أبي وقاص الثلث والثلث كثير . ومنه ما يحصل بقصد الموصي بوصيته الإضرار بالوارث ولا يقصد القربة بوصيته ، وهذا هو المراد من قوله تعالى غير مضار . ولما كانت نية الموصي وقصده الإضرار لا يطلع عليه فهو موكول لدينه وخشية ربه ، فإن ظهر ما يدل على قصده الإضرار دلالة واضحة ، فالوجه أن تكون تلك الوصية باطلة لأن قوله تعالى غير مضار نهي عن الإضرار ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .

يتعين أن يكون هذا القيد للمطلق في الآي الثلاث المتقدمة من قوله من بعد وصية إلخ ، لأن هذه المطلقات متحدة الحكم والسبب . فيحمل المطلق منها على المقيد كما تقرر في الأصول .

قد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم مسألة قصد المعطي من عطيته الإضرار بوارثه في الوصية وغيرها من العطايا ، والمسألة مفروضة في الوصية خاصة . وحكى ابن عطية عن مذهب مالك وابن القاسم أن قصد المضارة في الثلث لا ترد به الوصية لأن الثلث حق جعله الله له فهو على الإباحة في التصرف فيه . ونازعه ابن عرفة في التفسير بأن ما في الوصايا الثاني من المدونة ، صريح في أن قصد الإضرار يوجب رد الوصية . وبحث ابن عرفة مكين . ومشهور مذهب ابن القاسم أن الوصية ترد بقصد الإضرار إذا تبين القصد . غير أن ابن عبد الحكم لا يرى تأثير الإضرار . وفي شرح ابن ناجي على تهذيب المدونة أن قصد الإضرار بالوصية في أقل من الثلث لا يوهن الوصية على الصحيح . وبه الفتوى .

قوله وصية منصوب على أنه مفعول مطلق جاء بدلا من فعله ، والتقدير : [ ص: 267 ] يوصيكم الله بذلك وصية منه . فهو ختم للأحكام بمثل ما بدئت بقوله يوصيكم الله وهذا من رد العجز على الصدر .

قوله والله عليم حليم تذييل ، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أن الأحكام المتقدمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية ، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعا مثاره الجهل والقساوة . فإن حرمان البنت والأخ للأم من الإرث جهل بأن صلة النسبة من جانب الأم مماثلة لصلة نسبة جانب الأب . فهذا ونحوه جهل ، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم .

وقد بينت الآيات في هذه السورة الميراث وأنصباءه بين أهل أصول النسب وفروعه وأطرافه وعصمة الزوجية ، وسكتت عما عدا ذلك من العصبة وذوي الأرحام وموالي العتاقة وموالي الحلف ، وقد أشار قوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله في سورة الأنفال وقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله في سورة الأحزاب ، إلى ما أخذ منه كثير من الفقهاء توريث ذوي الأرحام . وأشار قوله الآتي قريبا ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إلى ما يؤخذ منه التوريث بالولاء على الإجمال كما سنبينه ، وبين النبيء - صلى الله عليه وسلم - توريث العصبة بما رواه أهل الصحيح عن ابن عباس أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر وما رواه الخمسة غير النسائي عن أبي هريرة : أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لموالي العصبة ومن ترك كلا أو ضياعا فأنا وليه وسنفصل القول في ذلك في مواضعه المذكورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية