الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        النوع الثاني من الملتزمات : الحج ، والعمرة .

                                                                                                                                                                        الحج والعمرة ، يلزمان بالنذر ، فإذا نذرهما ماشيا ، فهل يلزمه المشي ، أم له الركوب ؟ فيه قولان .

                                                                                                                                                                        أظهرهما : الأول ، وهما مبنيان على أن الحج ماشيا أفضل ، أم راكبا ؟ فيه ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                        أظهرها : المشي أفضل . والثاني : الركوب أفضل . والثالث : هما سواء . وقال ابن سريج : هما سواء ما لم يحرم . فإذا أحرم ، فالمشي أفضل . قال الغزالي في الإحياء : من سهل عليه المشي ، فهو أفضل في حقه ، ومن ضعف وساء خلقه لو مشى ، فالركوب أفضل .

                                                                                                                                                                        قلت : الصواب : أن الركوب أفضل وإن كان الأظهر لزوم المشي بالنذر ؛ لأنه مقصود . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فإن قلنا المشي أفضل لزمه النذر وإن قلنا الركوب ، أو سوينا ، لم يلزمه المشي بالنذر .

                                                                                                                                                                        [ ص: 320 ] ويتفرع على لزوم المشي مسائل :

                                                                                                                                                                        إحداها : لو صرح بابتداء المشي من دويرة أهله إلى الفراغ ، هل يلزمه المشي قبل الإحرام ؟ وجهان . أصحهما : نعم ، فلو أطلق الحج ماشيا ، فإن قلنا : لا يلزمه المشي من دويرة أهله مع التصريح به ، فهنا أولى ، وإلا ، فوجهان . أصحهما : يلزمه من وقت الإحرام ، سواء أحرم من الميقات أو قبله ، وبهذا قطع جماعة . وبنى صاحب التتمة الوجهين على أنه من أين يلزمه الإحرام ؟ فعن أبي إسحاق : من دويرة أهله . وعن غيره : من الميقات . فعلى الأول : يمشي من دويرة أهله . وعلى الثاني : من الميقات . ولو قال : أمشي حاجا ، فالصحيح أنه كقوله : أحج ماشيا . ومقتضى كل واحد منهما ، اقتران الحج والمشي . وفيه وجه : أن قوله : أمشي حاجا ، يقتضي أن يمشي من مخرجه إلى الحج .

                                                                                                                                                                        الثانية : في نهاية المشي طريقان . المذهب : أنه يلزمه المشي حتى يتحلل التحللين ، وبهذا قطع الجمهور ، وهو المنصوص ، وله الركوب بعد التحللين وإن بقي عليه الرمي أيام منى . والطريق الثاني : فيه وجهان حكاهما الإمام .

                                                                                                                                                                        أحدهما : هذا . والثاني : له الركوب بعد التحلل الأول . وأما العمرة ، فليس لها إلا تحلل واحد ، فيمشي حتى يفرغ منها . والقياس : أنه إذا كان يتردد في خلال أعمال النسك لغرض تجارة وغيرها ، فله أن يركب ، ولم يذكروه .

                                                                                                                                                                        الثالثة : لو فاته الحج ، لزمه القضاء ماشيا . وإذا تحلل في سنة الفوات بأعمال عمرة ، هل يلزمه المشي في تلك الأعمال ؟ قولان : أظهرهما عند الأكثرين : لا يلزمه ؛ لأنه خرج بالفوات عن أن يجزئه عن نذره . ولو فسد الحج بعد الشروع فيه ، فهل يجب المشي في المضي في فاسده ؟ فيه القولان .

                                                                                                                                                                        الرابعة : لو ترك المشي بعذر ، بأن عجز ، فحج راكبا ، وقع حجه عن النذر . وهل عليه جبر المشي الفائت بإراقة الدم ؟ قولان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : لا ، [ ص: 321 ] كما لو نذر الصلاة قائما ، فعجز ، صلى قاعدا ولا شيء عليه . وأظهرهما : نعم . فعلى هذا ، يلزمه شاة على المشهور . وفي قول : بدنة ، وإن ترك المشي مع القدرة ، فحج راكبا ، فقد أساء . وفيه قولان . القديم : لا تبرأ ذمته من حجه ، بل عليه القضاء ؛ لأنه لم يأت به على صفته الملتزمة .

                                                                                                                                                                        والأظهر : أنه تبرأ ذمته . فعلى هذا ، هل يلزمه الدم ؟ قولان ، أو وجهان . أظهرهما : نعم . وهل هو شاة ، أم بدنة ؟ فيه الخلاف السابق .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        من نذر حجا ، استحب أن يبادر إليه في أول سني الإمكان . فإن مات قبل الإمكان ، فلا شيء عليه كحجة الإسلام . وإن مات بعده ، أحج عنه من ماله ؟ وإن عين في نذره سنة ، تعينت على الصحيح كالصوم ، فلو حج قبلها ، لم يجزئه . ولو قال : أحج في عامي هذا ، وهو على مسافة يمكن الحج منها في ذلك العام ، لزمه الوفاء تفريعا على الصحيح . فإن لم يفعل مع الإمكان ، صار دينا في ذمته يقضيه بنفسه . فإن مات ولم يقض ، أحج عنه من ماله . وإن لم يمكنه ، قال في " التتمة " : إن كان مريضا وقت خروج الناس ، ولم يتمكن من الخروج معهم ، أو لم يجد رفقة ، وكان الطريق مخوفا لا يتأتى للآحاد سلوكه ، فلا قضاء عليه ؛ لأن المنذور حج في تلك السنة ، ولم يقدر عليه ، وكما لا تستقر حجة الإسلام والحالة هذه . ولو صده عدو أو سلطان بعد ما أحرم حتى مضى العام ، قال الإمام : إذا امتنع عليه الإحرام للعدو ، فالمنصوص : أنه لا قضاء . وخرج ابن سريج قولا : أنه يجب ، وبه قال المزني . كما لو قال : أصوم غدا ، فأغمي عليه حتى مضى الغد ، يجب القضاء . والمذهب : الأول . ولو منعه عدو أو سلطان وحده ، أو منعه رب الدين وهو لا يقدر على وفائه ، لم يلزمه القضاء [ ص: 322 ] على الأظهر . ولو منعه المرض بعد الإحرام ، فالمذهب وجوب القضاء ، وبه قطع الجمهور ، ولا ينزل منزلة الصد ؛ لأنه يتحلل بالصد ولا يتحلل بالمرض . وحكى الإمام عن الأصحاب ، تخريجه على الخلاف في الصد ، وكذلك حكى الخلاف فيما إذا امتنع الحج في ذلك العام بعد الاستطاعة . وإذا رأيت كتب الأصحاب ، وجدتها متفقة على أن الحجة المنذورة في ذلك ، كحجة الإسلام ، إن اجتمعت في العام الذي عينه شرائط فرض الحج ، وجب الوفاء واستقر في الذمة ، وإلا ، فلا . والنسيان وخطأ الطريق والضلال فيه ، كالمرض . ولو كان الناذر معضوبا وقت النذر ، أو طرأ العضب ولم يجد المال حتى مضت السنة المعينة ، فلا قضاء عليه .

                                                                                                                                                                        ولو نذر صلاة ، أو صوما أو اعتكافا في وقت معين ، فمنعه عما نذر عدو أو سلطان ، لزمه القضاء ، بخلاف الحج ؛ لأن الواجب بالنذر ، كالواجب بالشرع ، وقد يجب الصوم والصلاة مع العجز ، فلزما بالنذر . والحج لا يجب إلا بالاستطاعة .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        إذا نذر حجات كثيرة ، انعقد نذره ، ويأتي بهن على توالي السنين بشرط الإمكان . فإن أخر ، استقر في ذمته ما أخره . فإذا نذر عشر حجات ، ومات بعد خمس سنين أمكنه الحج فيهن ، قضي من ماله خمس حجات . ولو نذرها المعضوب ، ومات بعد سنة وكان يمكنه أن يحج عن نفسه الحجج العشر في تلك السنة ، قضيت من ماله . وإن لم يف ماله إلا بحجتين أو ثلاث ، لم يستقر إلا المقدور عليه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 323 ] فرع :

                                                                                                                                                                        من نذر الحج ، لزمه أن يحج بنفسه ، إلا أن يكون معضوبا فيحج عن نفسه .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        لو نذر الحج راكبا ، فإن قلنا : المشي أفضل ، أو سوينا بينهما ، فإن شاء مشى ، وإن شاء ركب . وإن قلنا : الركوب أفضل ، لزمه الوفاء . فإن مشى ، فعليه دم . وقال صاحب " التهذيب " : عندي أنه لا دم ؛ لأنه عدل إلى أشق الأمرين . ولو نذر أن يحج حافيا ، فله لبس النعلين ، ولا شيء عليه .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        يخرج الناذر عن حج النذر بالإفراد ، وبالتمتع ، وبالقران . وإذا نذر القران ، فقد التزم النسكين . فإن أتى بهما مفردين ، فقد أتى بالأفضل ، وخرج عن نذره . وإن تمتع ، فكذلك وإن نذر الحج والعمرة مفردين ، فقرن ، أو تمتع وقلنا بالمذهب : إن الإفراد أفضل ، فهو كما لو نذر الحج ماشيا وقلنا : المشي أفضل ، فحج راكبا .

                                                                                                                                                                        [ ص: 324 ] فرع :

                                                                                                                                                                        من نذر أن يحج ، وعليه حجة الإسلام ، لزمه للنذر حجة أخرى ، كما لو نذر أن يصلي ، وعليه صلاة الظهر ، يلزمه صلاة أخرى .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية