الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 355 ] النوع الثالث

ما قدم في آية وأخر في أخرى

فمن ذلك قوله في فاتحة الفاتحة : الحمد لله ( الفاتحة : 2 ) وفي خاتمة الجاثية : فلله الحمد ( الآية : 36 ) فتقديم " الحمد " في الأول جاء على الأصل ، والثاني على تقدير الجواب ، فكأنه قيل عند وقوع الأمر : لمن الحمد ومن أهله ؟ فجاء الجواب على ذلك . نظيره : لمن الملك اليوم ( غافر : 16 ) ثم قال لله الواحد القهار ( غافر : 16 ) .

وقوله في سورة يس : وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ( الآية : 20 ) قدم المجرور على المرفوع ؛ لاشتمال ما قبله من سوء معاملة أصحاب القرية الرسل ، وإصرارهم على تكذيبهم ، فكان مظنة التتابع على مجرى العبارة ، تلك القرية ، ويبقى مخيلا في فكره : أكانت كلها كذلك ، أم كان فيها [ فنظر أن أفاض ] على خلاف ذلك ، بخلاف ما في سورة القصص .

ومنها قوله في سورة النمل : لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل ( الآية : 68 ) وفي سورة المؤمنين : لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل ( المؤمنون : 83 ) فإن ما قبل الأولى : أئذا كنا ترابا وآباؤنا ( النمل : 67 ) وما قبل الثانية : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما ( المؤمنون : 82 ) فالجهة المنظور فيها هناك كون أنفسهم وآبائهم ترابا ، والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابا وعظاما ، ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث .

[ ص: 356 ] ومنها قوله في سورة المؤمنين : وقال الملأ من قومه الذين كفروا ( الآية : 33 ) فقدم المجرور على الوصف ؛ لأنه لو أخبر عنه - وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل عليه الموصوف ، وتمامه : وأترفناهم في الحياة الدنيا ( المؤمنون : 33 ) - لاحتمل أن يكون من نعيم الدنيا واشتبه الأمر في القائلين أهم من قومه أم لا ؟ بخلاف قوله في موضع آخر منها : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ( المؤمنون : 24 ) فإنه جاء على الأصل .

ومنها قوله في سورة طه : آمنا برب هارون وموسى ( طه : 70 ) بخلاف قوله في سورة الشعراء : رب موسى وهارون ( الشعراء : 48 ) .

ومنها قوله : ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ( الأنعام : 151 ) وقال في سورة الإسراء : نحن نرزقهم وإياكم ( الإسراء : 31 ) قدم المخاطبين في الأولى دون الثانية ؛ لأن الخطاب في الأولى في الفقراء بدليل قوله : من إملاق ( الأنعام : 151 ) فكان رزقهم عندهم أهم من رزق أولادهم ، فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم ، والخطاب في الثانية للأغنياء بدليل : خشية إملاق ( الإسراء : 31 ) فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع ، فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم ؛ لأنه حاصل ، فكان أهم ، فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم .

ومنها ذكر الله في أواخر سورة الملائكة : إن الله عالم غيب السماوات والأرض ( فاطر : 38 ) فقدم ذكر السماوات ؛ لأن معلوماتها أكثر ، فكان تقديمها أدل على صفة العالمية ، ثم قال : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ( فاطر : 40 ) فبدأ بذكر الأرض ؛ لأنه في سياق تعجيز الشركاء عن الخلق والمشاركة ، وأمر الأرض في ذلك أيسر من السماء بكثير ، فبدأ بالأرض [ ص: 357 ] مبالغة في بيان عجزهم ؛ لأن من عجز عن أيسر الأمرين كان عن أعظمهما أعجز ، ثم قال سبحانه : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ( فاطر : 41 ) فقدم السماوات تنبيها على عظم قدرته سبحانه ؛ لأن خلقها أكبر من خلق الأرض ، كما صرح به في سورة المؤمن ؛ ومن قدر على إمساك الأعظم كان على إمساك الأصغر أقدر .

فإن قلت : فهلا اكتفى من ذكر الأرض بهذا التنبيه البين ، الذي لا يشك فيه أحد .

قلت : أراد ذكرها مطابقة ؛ لأنه على كل حال أظهر وأبين ، فانظر أيها العاقل حكمة القرآن ، وما أودعه من البيان والتبيان ؛ تحمد عاقبة النظر ، وتنتظر خير منتظر .

ومن أنواعه أن يقدم اللفظ في الآية ويتأخر فيها ؛ لقصد أن يقع البداءة والختم به ، للاعتناء بشأنه وذلك كقوله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم ( آل عمران : 106 ) .

وقوله : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ( الجمعة : 11 ) إلى قوله : قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ( الجمعة : 11 ) .

وكذلك قوله : إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ( البقرة : 33 ) فإنه لولا ما أسلفناه لقيل : ما تكتمون وتبدون ؛ لأن الوصف بعلمه أمدح ، كما قيل : يعلم سركم وجهركم ( الأنعام : 3 ) و عالم الغيب والشهادة ( الرعد : 9 ) والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ( النحل : 19 ) .

[ ص: 358 ] فإن قلت : فقد قال تعالى : يعلم السر وأخفى ( طه : 7 ) قلت : لأجل تناسب رءوس الآي .

ومنها أن يقع التقديم في موضع والتأخير في آخر ، واللفظ واحد ، والقصة واحدة ، للتفنن في الفصاحة ، وإخراج الكلام على عدة أساليب ، كما في قوله تعالى : وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ( البقرة : 58 ) وقوله : وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا ( الأعراف : 161 ) .

وقوله : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ( البقرة : 7 ) وقوله : وختم على سمعه وقلبه ( الجاثية : 23 ) قال الزمخشري في " كشافه القديم " : علم بذلك أن كلا الطريقين داخل تحت الحسن ؛ وذلك لأن العطف في المختلفين كالتثنية في المتفقين ، فلا عليك أن تقدم أيهما شئت فإنه حسن مؤد إلى الغرض ، وقد قال سيبويه : ولم يجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه بكونه أولى بها من الجائي ؛ كأنك قلت : مررت بهما ، يعني في قولك : مررت برجل وجاءني ، إلا أن الأحسن تقديم الأفضل ، فالقلب رئيس الأعضاء ، والمضغة لها الشأن ، ثم السمع طريق إدراك وحي الله ، وكلامه الذي قامت به السماوات والأرض ، وسائر العلوم التي هي الحياة كلها .

قلت : وقد سبق توجيه كل موضع بما ورد فيه من الحكمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية