الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( قل هاتوا برهانكم ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : " هات " صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفيا أو إثباتا ، فلا بد له من الدليل والبرهان ، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد ، قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            من ادعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه



                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( بلى ) ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهانا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة ، بلى ، إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة ، فيكون ذلك ترغيبا لهم في الإسلام ، وبيانا لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة ، لكي يقلعوا عما هم عليه ، ويعدلوا إلى هذه الطريقة ، فأما معنى : ( من أسلم وجهه لله ) فهو إسلام النفس لطاعة الله ، وإنما خص الوجه بالذكر لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس والفكر والتخيل ، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الوجه قد يكنى به عن النفس ، قال الله تعالى : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) [ الليل : 20 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن أعظم العبادات السجدة ، وهي إنما تحصل بالوجه ، فلا جرم خص الوجه بالذكر ، ولهذا قال زيد بن عمرو بن نفيل :


                                                                                                                                                                                                                                            وأسلمت وجهي لمن أسلمت     له الأرض تحمل صخرا ثقالا
                                                                                                                                                                                                                                            وأسلمت وجهي لمن أسلمت     له المزن تحمل عذبا زلالا



                                                                                                                                                                                                                                            فيكون المرء واهبا نفسه لهذا الأمر بإذلالها ، وذكر الوجه وأراد به نفس الشيء ، وذلك لا يكون إلا بالانقياد والخضوع وإذلال النفس في طاعته ، وتجنب معاصيه ، ومعنى " لله " أي : خالصا لله لا يشوبه شرك ، [ ص: 5 ] فلا يكون عابدا مع الله غيره ، أو معلقا رجاءه بغيره ، وفي ذلك دلالة على أن المرء لا ينتفع بعمله إلا إذا فعله على وجه العبادة في الإخلاص والقربة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية